نجحت المملكة خلال السنوات الماضية في تحقيق التوازن الأمثل لأسواق النفط، والمساهمة في معالجة أزمات الاقتصاد العالمي؛ من خلال ضمان إمدادات النفط؛ واستقرار أسعارها؛ في أسوأ الظروف، الاقتصادية، السياسية، والعسكرية.
لم تصل السعودية إلى هذه المرحلة المتقدمة من القدرة على ضبط حركة الأسواق، والإمدادات إلا بعد أن استثمرت مئات المليارات في تطوير صناعتها النفطية، وهي تكلفة عالية كان من الممكن توجيهها لدعم قطاعات الاقتصاد الأخرى، والتوسع في خطط التنمية التي يحتاج إليها الوطن، أو توجيهها لقنوات استثمارية أخرى تحقق هدف تنويع مصادر الدخل مستقبلا.
التوسع في الاستثمارات النفطية أثر بشكل مباشر على قطاعات الإنتاج الأخرى التي كانت في أمس الحاجة للتوسع النوعي الذي يسهم في تنويع الاقتصاد وخلق الفرص الوظيفية والاستثمارية وزيادة الصادرات وتنويع الدخل.
بعيد الأزمة العالمية العام 2008 تعالت أصوات الغرب مطالبة دول النفط بضخ فوائضها المالية للمساهمة في دعم الدول الأكثر حاجة للسيولة آن ذاك.
تمحورت نقاشات مجموعة العشرين حول سبل إنعاش اقتصادات دول الغرب وشركاتها المتضررة من الأزمة العالمية. أنشئت الصناديق السيادية وتعهدت دول النفط بضخ مزيد من الاستثمارات المالية فيها؛ وهو ما حدث بالفعل.
شكلت الاستثمارات النفطية جزء أصيل في حزمة الاستثمارات الموجهة؛ ما حَمَّل بعض الدول؛ ومنها المملكة؛ أعباء مالية مزدوجة كان من الممكن إعادة استثمارها في قطاعات الإنتاج البديلة؛ الأكثر ارتباطا وتحقيقا للاستقرار المالي؛ والتنمية المستدامة.
حتى في أحلك ظروفها المالية؛ وأوضاع الاقتصادات الحرجة المؤثرة في الطلب العالمي؛ لن يتوقف الغرب عن مطالبة دول النفط بضخ مزيد من الاستثمارات في قطاع الإنتاج؛ دون النظر إلى مصالحها الوطنية التي تقتضي ضبط الإنفاق من جهة؛ وإعادة توزيع استثماراتها بما يساعد على تحقيق هدف تنويع مصادر الاقتصاد من جهة أخرى.
وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية المهندس خالد الفالح أكد في تصريحات صحفية «أن استدامة الاستثمارات في قطاع النفط تستلزم سعرًا أعلى من 50 دولارًا للبرميل»؛ وأبدى تحفظه على الأسعار الحالية التي قال عنها «أن 50 دولارًا سعر متدنٍ للغاية، يصعب معه استدامة الاستثمار».
وبالرغم من إشارته إلى انخفاض المعروض بنحو مليون برميل؛ إلا أنه توقع أن «تحقيق التوازن سيستغرق وقتا طويلا لتقليص تخمة المخزونات».
أعتقد أن الملكة في حاجة إلى مراجعة استثماراتها في قطاع النفط بمعزل عن الأسعار وتوجهاتها المستقبلية؛ لتتوافق مع رؤية 2030 التي تركز بشكل أكبر على الانعتاق التدريجي من إيرادات النفط؛ وتنويع الاقتصاد؛ وزيادة الصادرات غير النفطية؛ وهو أمر لن يتحقق مالم تركز الحكومة على الاستثمارات النوعية في القطاعات غير النفطية.
تمتلك المملكة طاقة إنتاجية تفوق حاجتها الحالية؛ وربما تفوق قدرتها التسويقية مستقبلا؛ وتحتفظ بطاقة إضافية غير مستغلة؛ ما يعني أن أي استثمارات ستوجه لقطاع الإنتاج النفطي لن تحقق العوائد المرجوة؛ في الوقت الذي ستُحرم منه قطاعات أخرى هي في أمس الحاجة لها؛ عوضا عن تسببها في الضغط على المالية العامة الأكثر حاجة للترشيد.
قد يكون حجم الإنتاج؛ والمخزونات النفطية من المؤشرات المهمة لِصُنَّاع النفط؛ إلا أن مؤشر سوق السندات يمكن أن يكون من المؤشرات المهمة الدالة على وجهة الاقتصاد العالمي المتوقعة خلال العشر سنوات المقبلة؛ وبالتالي حجم الطلب المتوقع على النفط؛ وربما الصناعة النفطية بشكل عام.
يمكن لأسعار الفائدة على السندات أن تشي بمستقبل الاقتصاد العالمي؛ فهي أحد أدق المؤشرات التي يمكن لمتخذي القرارات الإستراتيجية الاعتماد عليها؛ متى أحسنوا قراءتها وتحليل البيانات المرتبطة بها.
تشير بعض تقارير محللي «دويتشه بنك» المرتبطة بعائدات السندات الأمريكية إلى إمكانية وقوع ركود مستقبلي بنسبة 60 %!؛ أما أسعار الفائدة طويلة الأجل؛ فقد بلغت أدنى معدلاتها الأسبوع الماضي.
الأمر لا ينطبق على الاقتصاد الأمريكي فحسب بل يمتد ليصل جميع اقتصادات الدول الصناعية الكبرى؛ ومنها ألمانيا واليابان؛ التي تقدم سندات لعشر سنوات بعوائد سلبية.
باختصار شديد؛ فإن أسعار السندات ربما تكشف بعض التوقعات المستقبلية التي يحاول الغرب إخفاءها؛ ما يستوجب التمعن فيها ووضع الخطط الإستراتيجية التي يمكن أن تجنب الاقتصاد السعودي تبعات المخاطر العالمية.
لن أكون متشائما إذا ما قلت إن ما يحدث في اقتصاديات الدول الغربية اليوم أشبه بما حدث قبل العام 2008 ما يعني أن العالم قد يكون مقبلا على هزات مالية عنيفة تتسبب في إشكالات اقتصادية لا حصر لها.
التعامل مع الأحداث الاقتصادية بواقعية؛ وتحليل بياناتها بدقة؛ والأخذ بالأسباب الظاهرة؛ والمؤشرات الدقيقة بعيداً عن تطمينات الغرب ووعود النمو العالمي؛ الذي قد يطول انتظاره؛ هو الأحوط للمملكة؛ والمحقق لمصالحها الاقتصادية.
يفترض أن يُشكل مستقبل الاقتصاد السعودي بعيداً عن تركة النفط الثقيلة التي ما زلنا نجاهد من أجل الانعتاق من شباكها المحكمة.
نقلا عن الجزيرة