لن اتحدث هنا عن معجزات كروية تقدمها النوادي الإسبانية، ولا عن لوحات فنية نحتها فنانين إسبان، بل عن معجزة اقتصادية سطرتها الإرادة الإسبانية.
بعدما عصفت أزمة الرهن العقاري بالسوق الإمريكي، وقعت الأسواق العالمية في ظلال تبعاتها.
لقد تأثرت إسبانيا و اليونان وإيرلندا والبرتغال (و التي عرفت بدول ال PIGS) بشكل كبير، حتى توقع الكثير من المحللين انهيار هذه الدول وإعلان إفلاسها.
كل واحدة من هذه الدول الأربع مرت بتجارب مختلفة، ولكني سأسرد هنا بشكل موجز التجربة الإسبانية في التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على كل مفاصل الحياة في إسبانيا.
اليوم اصبحت إسبانيا واحدة من اكثر الدول في منطقة اليورو نموًا، حيث سجل الاقتصاد الإسباني نموًا جاوز 3% العام الماضي، رغم وجود الكثير من التحديات الداخلية و الخارجية التي قد تعصف بالاقتصاد الإسباني.
إسبانيا ذات ال 47 مليون نسمة، تمتلك خامس اكبر اقتصاد في منطقة اليورو، مما يعكس مدى أهميتها.
إلا إن الأزمة المالية العالمية عام 2007 ادت إلى شبه انهيار في الاقتصاد الإسباني، حيث انخفضت أسعار العقار بشكل كبير مما اثر على القطاع البنكي، ومن ثم القطاعات الاقتصادية الاخرى.
ونتج عن ذلك ركود اقتصادي كبير، و أزمة اقتصادية خانقة، صاحبها إرتفاع نسبة البطالة، وإرتفاع العجز في التجارة الخارجية، و إرتفاع كبير في المديونية.
مع تولي الرئيس الإسباني ماريانو راخوي سدة الرئاسة، قام بإصلاحات جذرية تساعد الشركات الإسبانية على البقاء على تنافسيتها العالية.
حيث يعود له الفضل في فرض إصلاحات جوهرية طالت معظم مفاصل الحياة في إسبانيا، وساعدته في ذلك وجود عوامل خارجية ابرزها انخفاض قيمة اليورو، وانخفاض سعر النفط، وبرنامج التيسير الكمي الذي اتبعه البنك المركزي الأوربي، وعوامل اخرى داخلية مثل حجم الاقتصاد الإسباني بالإضافة إلى وجود نظام تعليمي متقدم.
عمل راخوي على تشريع إصلاحات في قطاع العمال في عام 2012م تهدف للحد من انهيار الشركات، وتعمل على تحفيز الشركات على زيادة التوظيف عبر اليات منها تنظيمات في "اتفاقية المفاوضة الجماعية" مع النقابات العمالية بديلأ عن التسريح، وفي المقابل خفض كلفة وسهولة تسريح العمال لزيادة الإنتاجية والمرونة.
هذه الإصلاحات سهلت عمليات الوصول إلى اتفاقيات بين النقابات العمالية و الشركات مع مراعاة وضع كل شركة.
كما عمل على مراجعة السياسات المالية للدولة عبر خفض الضرائب على الشركات من 30% إلى 25% لتعزيز تنافسية الشركات الإسبانية، وتشريع إصلاحات كبيرة في القطاع العام ابرزها اتباع سياسة التقشف الصارمة، ورفع الكفاءة في استخدام الموراد المتاحة، ورفع معدل الضريبة المضافة لتعزيز الإيرادات.
الإصلاحات الإسبانية اقنعت الإتحاد الأوربي بوجود حركة تصحيحية داخلية في إسبانيا، وبالتالي سهلت قرار الإتحاد الأوربي بالموافقة على خطة إنقاذ النظام المصرفي الإسباني ب 62 مليار يورو.
لعبت الإصلاحات الاقتصادية بالإضافة إلى العوامل الخارجية دورًا كبيرًا في انتعاش الاقتصاد الإسباني مرة اخرى، وتعزيز ثقة المستثمرين، وزيادة تنافسية الشركات الإسبانية وبالتالي إرتفاع صادراتها، وإرتفاع حركة السياحة.
فقد بدأ الاقتصاد الإسباني بالنمو مجددًا وبنسب تفوق دول غرب اوربا، و خلق المزيد من فرص العمل مما انعكس ايجابًا على نسبة البطالة، وخفض في نسب الدين العام.
على اثر ذلك، رفعت وكالة ستاندرد آند بورز تصنيفها الائتماني لإسبانيا إلى مستوى BBB+.
إن استدامة هذه الحركة الاقتصادية التصحيحية هو رهن لمدى شمولية هذا النمو على طبقات المجتمع المختلفة.
لذا افرزت الإنتخابات الأخيرة في ديسمبر الماضي دخول أحزاب جديدة لمنصة البرلمان بعد سيطرته طوال أربعة عقود من قبل اليمين المحافظ الشعبي و اليسار الإشتراكي العمالي.
ورغم مرور ثلاثة أشهر من الإنتخابات البرلمانية، لم تنجح الأحزاب السياسية في تشكيل حكومة حتى اليوم!
ويعكس ذلك عدم ارتياح فئات المجتمع من استفادتها من المعجزة الاقتصادية التي حققها ساستهم خصوصًا إن نسب البطالة لا تزال مرتفعة، رغم انخفاضها عما كانت عليه خلال السنوات الماضية.
إن التحدي القادم في إسبانيا يكمن في اشراك جميع الفئات في نتائج النمو المحقق، و تشكيل حكومة قادرة على استمرار معدلات النمو الحالية.
كما ستلعب العوامل الخارجية دورًا كبيرًا في زيادة التحديات التي ستواجهها إسبانيا خصوصًا الإرتفاع التدريجي في أسعار النفط، ومدى صلابة الإتحاد الأوربي خصوصًا مع قرب الإستفتاء في تحديد مصير بريطانيا من عضويتها في الإتحاد.
إن عدم التغلب على التحديات الداخلية والخارجية القادمة قد يعكر على الإسبان نشوة الإحتفال بالنتائج المبهرة التي حققها ساستهم خلال الأعوام القليلة الماضية.
رغم إن المعجزة الإسبانية هي وليد بيئتها فلا يمكن قص ولزق التجربة الإسبانية من دون النظر إلى المعطيات الخاصة لكل بلد، إلا إنه يمكننا ان نستفيد من التجربة الإسبانية، خصوصًا اننا لم نحسن استغلال ثروتنا النفطية لأعوام كثيرة مضت.
إن العبر تكمن في أهمية التضحية من الجميع، وانخاذ خطوات تصحيحية سريعة، واشراك الجميع في عملية صنع القرار عبر الشفافية والحوار، وعبر اتباع سياسة واضحة مرسومة يمكن قياس مدى نجاحها، ومراجعة نتائجها بشكل دوري.