الأسواق المالية لا تكذب

19/05/2013 9
محمد العنقري

حلقت الأسواق المالية العالمية عالياً منذ مطلع العام الحالي، ولا يكاد سوق مالي عالمي أو إقليمي وصلت نسبة ارتفاعه أقل من عشرة بالمئة باستثناء السوق السعودي، إذ وصلت مكاسبه الى خمسة بالمئة فقط.

ولعل مؤشر داو جونز الأبرز عالمياً بعد تحقيقه لأرقام غير مسبوقة تاريخياً مثالٌ حيّ على ما عكسته مؤشرات الاقتصاد الأمريكي الإيجابية أخيراً. 

وقد ستبقها ارتفاع كحالة طبيعية للقاعدة المعروفة بأن الأسواق قائدة للاقتصاد.

وما هبوط أسعار الذهب إلا دليل آخر على تخارج المستثمرين من الملاذ الآمن ودخولهم بأسواق المال عموماً نتيجة قناعة بأن الأحوال الاقتصادية باتت أفضل الى حد جيد، وارتفعت في المقابل ثقة المستهلك في كثير من الاقتصاديات على رأسها أميركا، وتحسنت أسعار الدولار أمام الكثير من العملات، كل هذه العوامل وغيرها دفعت الأسواق إلى الارتفاع يدعمها زيادة في المعروض النقدي ساعد على تدفق للنقد كبير ارتفعت بموجبه الأسواق. 

هذه المقدمة ليست إلا تدليلاً على صدق الأسواق بكل الأحوال حتى لو عدنا تاريخياً الى سنوات قليلة نجد أن الأسواق صححت نتيجة الأزمة المالية العالمية وارتفع الذهب كملاذ آمن في حينها، وذات الأمر ينطبق على السوق المالي المحلي في كل مراحله السابقة والحالية، فتسارع التمويل وارتفاع حجمه قفز بالسوق الى 21 ألف نقطة رغم ضيق الفرص فيه فوصل للفقاعة معبراً بشكل صادق عن ضعف قنوات الاستثمار الموجودة في الاقتصاد.

وحالياً نجد أن السوق يعاني من ضعف في أحجام التداول وتركز جلها بقطاعات المضاربة وغياب للاستثمار المؤسسي وتأثيره، إذ لا تشكل الصناديق الاستثمارية أكثر من 2 بالمئة قياساً بحجم السوق البالغ قرابة 1.4 ترليون ريال.

وإذا ما أخذنا هذا الرقم الأخير فهو يعادل نصف الناتج المحلي ولكنه في الوقت نفسه يماثل نسبة تأثير القطاع الخاص بالناتج المحلي، إلا إن ضعف السيولة وتركز نسبة لا تقل عن أربعين بالمئة بشركات المضاربة من التداولات اليومية دليل على صدق السوق في غياب الأنظمة المطلوبة لتنظيم تدفق النقد للسوق، فهيئة السوق قامت خلال سبع السنوات الأخيرة بالعديد من الإصلاحات في السوق إلا أن الإصلاح الحقيقي للسيولة والذي يسمى عمق السوق لم يحظ بالاهتمام المطلوب، وهذا ليس بسبب عدم رغبة الهيئة في ذلك بل لتشتت المسئولية في هذا الجانب بين العديد من الجهات الاقتصادية الحكومية.

فالمؤسسات المالية المرخصة هي تماثل البنوك الاستثمارية عالمياً والتي عادة تتبع للبنوك المركزية، فهي قطاع مالي في نهاية المطاف ويجب أن تخضع لمؤسسة النقد للإشراف عليها من حيث القدرة والملاءة المالية وتطبيق معايير عالمية عليها ودعمها من حيث قوة السيولة التي يجب أن تتناسب مع الاحتياجات النقدية للاستثمار في الاقتصاد من خلال السوق المالي وبقائها تحت إشراف هيئة السوق سيقلل من ديناميكيتها بدورها الاستثماري ويزيد من أعباء الهيئة في الوقت الذي سيضع الإشراف على القطاع المالي في مربع التشتت.

فالبنوك التجارية وقطاع التأمين وشركات التقسيط كلها تخضع لمؤسسة النقد فيما القطاع المالي الاستثماري منفصل عن المؤسسة، فكيف ستضبط عمليات تنظيم تدفق النقد في الاقتصاد فيما لو بقي للهيئة الإشراف على ما يربط علاقة هذه المؤسسات في السوق المالي، فإن ذلك سينعكس إيجاباً على دورها المطلوب وتعزيز الدور المؤسسي بالسوق، فحالة السوق المالي بهذه السيولة الضعيفة وغير المركزة و ما اتضح بعد قرارات الهيئة الأخيرة بالرغم من إيجابيتها إلا أنها قرأت خطأً نتيجة استمرار سيطرة تداول الأفراد على السوق والذين يبحثون عن الربح السريع والذي لا يأتي إلا من المضاربة التي انقلبت الى غوغائية منذ سنوات طويلة ولم يتبدل الحال الى الآن رغم كل الإصلاحات التي أحدثتها الهيئة.

فتنظيم المضاربات لن تحله أي قرارات من النوع التي صدرت أخيراً وسابقاً إلا إذا تم تفعيل أدوار أخرى تتمثل في إصدار نظام صانع السوق، كالذي صدر في دولة الإمارات الشقيقة قبل أشهر وفتح السوق للاستثمار الأجنبي المباشر مما يزيد من حجم السيولة من كلا الطرفين ويرفع من مستوى المعلومات عن السوق وقيمة الفرص فيه،ولا يمكن بهذه الحالة أن تستمر سيطرة المضاربات الغوغائية لأن المؤثرين ازدادو وتغيرت نوعيتهم لمحترفين.

يضاف الى ذلك أن سوق الصكوك سيزداد نشاطه بالمستوى المطلوب مما يعيد توزيع السيولة في السوق ويزيد من شهية الاستثمارات الباحثة على التنوع، فالمعروض النقدي بلغ 1.1 ترليون ريال منها 700 مليار ريال ودائع كحسابات جارية دون تكلفة على البنوك، وهذا الحجم النقدي يحتاج الى هيكلة ليستفيد منها الاقتصاد بنمط أوسع تاثيراً لا أن تبقى الفائدة فقط محصورة في أرباح تقليدية للبنوك دون انعكاس على أصحاب هذه الودائع، كما سيزيد من مدة بقائها بالبنوك لا أن تكون تحت الطلب بحجم كبير وصل الى 60 بالمئة من حجمها الكلي،فالخاسر الأكبر الاقتصاد من بقاء الودائع بهذه الطريقة.

إن إصلاح السيولة في السوق وزيادة العمق فيه هو الأولوية الأولى في السوق المالي، وسيكون لتعزيز الدور المؤسسي أثر كبير إيجابي على الاستثمار في السوق الذي يعكس حالياً ضعف المنتجات الاستثمارية، ويظهر أيضاً نشاط الاستثمارات المحدود بما لا ينعكس على التوظيف إيجاباً وإسهاماً في تقليص نسب البطالة ورفع الطاقة الاستيعابية بالاقتصاد.

نقلا عن جريدة الجزيرة