التجارة الحرة .. وخطر الاندثار

22/08/2021 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

عقب الحرب العالمية الثانية، اتفقت أغلب الدول لأول مرة في التاريخ على ضرورة التعامل التجاري مع البضائع المستوردة بدون تمييز وعلى قدم المساواة، بغض النظر عن بلد المنشأ، وقد سمح هذا الأمر للعديد من الدول الفقيرة بتحقيق نمو اقتصادي كبير من خلال التصدير، إذ أتاحت العولمة للشركات نقل مراكز الإنتاج إلى أي مكان في العالم، في ظل إمكانية إنتاج السلع وتصديرها تحت قوانين تجارية موحدة.

وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن الماضي، كان نمو التجارة العالمية مبنيا على مبدأ بسيط، وهو عدم التمييز في القوانين والتشريعات المنظمة للمبادلات بين الدول، وقد هذا سمح بنشر الثروة والازدهار في مختلف أنحاء العالم، وسمح لمئات الملايين من سكان الدول النامية بتحقيق الاستفادة، ومع ذلك، فإن مبدأ عدم التمييز يواجه الآن خطر الاندثار بسبب النقاش الدائر حول قضايا مثل الأمن القومي، وحقوق العمال، وحماية المحيط المحلي، حيث تتجه أكبر اقتصاديات العالم نحو التخلي عن فكرة عدم التمييز، التي تعد حجر الأساس للتجارة الحرة والعولمة.

ولعل أبرز خطوة في سياق هذا التخلي، جاءت من الاتحاد الأوروبي الذي كشف عن خطة لخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 55% بنهاية العقد الجاري مقارنة بعام 1990، وهذا الهدف سيتطلب القيام بالثورة الأخطر في التشريعات الاقتصادية منذ الثورة الصناعية، بالإضافة إلي ذلك يفكر الأوروبيون في فرض ضريبة الحدود الكربونية، التي ستسمح بإقرار تعريفات جمركية أعلى بالنسبة للواردات التي تم إنتاجها بطرق تسبب زيادة الانبعاثات الكربونية، مقارنة بالمنتجين الذين سيعملون وفقا لقيود بيئية صارمة.

وإذا كان هذا المخطط الأوروبي سيبدأ باستهداف القطاعات الأكثر تلويثا للبيئة، على غرار الإسمنت والفولاذ والأسمدة الزراعية والألمنيوم، فإن الكونجرس الأمريكي يعمل هو الآخر على تطوير مخطط مماثل، لفرض ضريبة على واردات السلع الملوثة للبيئة، في إطار حزمة لإصلاح الموازنة، كما أن الأفق يوحي بقيود تجارية أخرى قادمة من أجل إجبار المنتجين والمصدرين على الالتزام باحترام حقوق العمال وحقوق الإنسان، وهذا يعني بالنسبة للعديد من القطاعات التجارية، أن مبدأ عدم التمييز سيصبح شيئاً من الماضي.

والواقع، أن أغلب هذه الإجراءات قد تبدو ضرورية، ولكنها سوف تؤدي لتقسيم التجارة العالمية إلى تكتلات وأقاليم، وتجزئتها بحسب الأيديولوجيا والقيم الاجتماعية والالتزامات البيئية، وهذا سيجعل الشركات مضطرة لتصميم استثماراتها وطرق إنتاجها، لتتماشى مع قيم الدول التي تريد أن تبيع فيها سلعها، مما سيفتح الباب أمام المزيد من الصراعات الاقتصادية، ومن المهم للحكومات التصرف بحذر لتجنب الانزلاق نحو السياسات الحمائية، ومع ذلك، فإن المعضلة الحقيقية هي أن الخط الفاصل بين الإجراءات الإنسانية والبيئية المشروعة، والسياسات الحمائية الأنانية، قد يكون رفيعاً جداً كخيوط العنكبوت، إذ شهدت السنوات الأخيرة استثناءات حكومية صارخة تتناقض مع التجارة الحرة، والمثال الأبرز على ذلك ما فعله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي تدثر بالأمن القومي بهدف زيادة ضرائب واردات الصلب والألمنيوم.

الأخطر أنه في حال طرأت تغييرات على قوانين التجارة الحرة، فإنه يمكن التلاعب بمكتسبات الزمن الماضي والتفريط فيها بكل سهولة من أجل التخلص من المنافسة الخارجية أو لأغراض سياسية، خاصة وأن مفاوضي التجارة الدولية عملوا لعدة عقود على ترسيخ مبادئ وتشريعات مهمة، تتعلق بالسلامة وصحة البشر، على غرار معايير اختبار الصدمات للسيارات، وقوانين مراقبة جودة الغذاء والدواء.

 
 
خاص_الفابيتا