الإقراض من أجل التمكين وليس الربح

13/12/2015 0
د. إيمان بيبرس

من ضمن الأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة التي وقعت عليها مصر ودول العالم "مكافحة الفقر، وتطوير التعليم وسد الفجوة النوعية، وتمكين المرأة وتعزيز المساواة بين الجنسين"، وكلنا نعي وندرك أن الجمعيات والمؤسسات الأهلية هي أحد الدعائم والركائز الأساسية لتحقيق هذه الأهداف؛ وذلك نتيجة إيمانها الكبير بالدور الذي يقع على عاتقها من مساندة الدولة، وكذا إيمان القائمين عليها بأهمية دورهم دون الحصول على أي مقابل سوى المساهمة في تنمية الوطن.

وتعمل الجمعيات الأهلية في مصر على تعبئة جهود الأفراد لإحداث التنمية في المجتمع لصالح الفئات المهمشة والعمل على حل مشكلاتهم والإسهام في مؤازرة جهود الدولة في تلبية الاحتياجات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، ولعل ذلك ما جعل الاتحاد العام للجمعيات الأهلية يبلور ميادين عمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية في 17 ميدان عمل مختلف، منها، رعاية الطفولة والأمومة، رعاية الأسرة، التنمية الاقتصادية للأسرة وتنمية الدخل، وغيرهم، ولكنني سأركز في هذا المقال على هذا الميدان الأخير وهو التنمية الاقتصادية للأسرة، وذلك لإيماني الشديد بأهمية  هذا الدور الذي تقدمه الجمعيات الأهلية في هذا الصدد، وسوف نتناوله عزيزي القارئ طبقًا لعدد من المحاور: 

-المحور الأول: معدلات الفقر في مصر وعلاقتها بالجمعيات الأهلية.

-المحور الثاني: دور الجمعيات الأهلية العاملة في مجال الإقراض متناهي الصغر في تحقيق التمكين الاقتصادي.

-المحور الثالث: الفرق بين مفهوم الإقراض متناهي الصغر وبين مفهوم التمويل متناهي الصغر.

وسنبدأ سويًا بالمحور الأول وهو المحور الذي سيتناول معدلات الفقر وعلاقته بعمل الجمعيات الأهلية؛ وذلك لأؤكد على ضرورة عدم الاكتفاء بالدور الحالي الذي تمارسه الجمعيات الأهلية للتمكين الاقتصادي، بل يجب إصقال هذا الدور وتدعيمه أكثر فأكثر من جانب جميع الجهات، حيث كشف تقرير لوزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إخفاق مصر في تحقيق الكثير من الأهداف الإنمائية للألفية التي كان عليها تحقيقها في عام 2015، والتي جاء على رأسها، العمل على خفض معدلات الفقر إلى نصف المستوى الذي كانت عليه خلال عام (1990 - 1991)، حيث بلغ وقتها 24.3%، ووصل خلال عام (2008-2009) إلى 21.6%، ليعاود الارتفاع خلال عام (2010-2011) إلى 25.2 %، ووصلت في عام (2012 - 2013) إلى 26.3%.

ومن الإحصائيات السابقة، يتبين لنا عدد من النقاط التي يجب علينا وضعها في الحسبان، والتي هي أيضًا وثيقة الصلة بالموضوع الذي نتناوله، أهمها أن ارتفاع معدلات الفقر جاء في سنوات ما بعد ثورة يناير، حيث بات هناك قلة في الاستثمارات، مما أدى إلى قلة فرص العمل، كما كان هناك قلة في التمويلات الممنوحة للجمعيات الأهلية، وذلك ما أكده نفس التقرير عن وزارة التخطيط، حيث أشار إلى أن من ضمن العوامل المساهمة في ارتفاع معدلات الفقر بطء تنفيذ برنامج استهداف القرى الأكثر فقراً لمواجهة الفقر، بالإضافة إلى العديد من التحديات الأخرى التي تواجه الحد من الفقر في مقدمتها ارتفاع معدل النمو السكاني وخاصة في الريف، وارتفاع نسبة الأمية، وتدني مستويات التعليم في الريف، وزيادة عدد المناطق العشوائية، وهذه المحاور الأخيرة تقع بشكل كبير تحت طائلة اهتمامات الجمعيات الأهلية، ومن هنا فإننا نجد أن "الفقر، البطالة، الأمية" ليسوا بمعزل عن بعضهم البعض؛ إنما هم شديديّ الصلة؛ فهم  كالدائرة المفرغة.

ومن هنا ندخل في المحور الثاني وهو دور الجمعيات الأهلية العاملة في مجال الإقراض متناهي الصغر في تحقيق التمكين الاقتصادي، حيث يترائ إلينا من النسب السابقة أننا بحاجة إلى دعم ما تقدمه الجمعيات والمؤسسات الأهلية العاملة في القروض في تحقيق التمكين الاقتصادي للأسر الفقيرة والأشد احتياجًا.

فالجمعيات الأهلية العاملة في مجال الإقراض متناهي الصغر تعمل على طرح فكرة التمكين الاقتصادي من خلال استهدافها لتنمية القدرات والمهارات التي تفتقدها هذه الفئات المهمشة، وذلك من خلال تدريبهم على الاعتماد على الذات، فهي تتعامل مع حلقة من ضمن سلسلة من غياب التعليم وقلة فرص العمل والفقر، وغيرها من الحلقات، كما أنها تبعد عن مفهوم العمل الخيري التقليدي الذي يعتمد على علاقة بين المانح والمتلقي القائمة على التبرعات وأسلوب البر والإحسان.

كما تساهم الجمعيات في الحد من مشكله البطاله ، حيث تعمل على توفير فرص عمل للعديد من الشباب والفتيات، حيث يعمل بها أكثر من 44731 شخص سواء متطوعين أو موظفين، وخلال عام 2010 كشف تقرير صادر عن «شبكة التمويل الأصغر للدول العربية» أن مصر تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد العملاء المستفيدين من القروض متناهية الصغر، وهذا بنسبة 42% من إجمالي المنطقة العربية، وهناك أكثر من 600 جمعية تعمل على تقديم القروض الصغيرة للفئات الأكثر احتياجاً.

وفي الحقيقة أن أهم ما يميز عمل الجمعيات والمؤسسات الأهلية العاملة في الإقراض هو أنها تقوم بدراسة الاحتياجات الأساسية لكل فئة من الفئات المهمشة، وتعمل على دراسة احتياجها التمويلي، وقدرتها الاستيعابية وقدرتها على السداد، كما أنها تقوم بتدريب المستفيدين على كيفية إقامة مشروعات، مثل تعلم إجراء دراسة الجدوى، التدريبات المالية اللازمة، مهارات الإتصال الشخصي وإدارة المشروعات؛ وهو ما تقوم به جمعية نهوض وتنمية المرأة- التي أتشرف برئاسة مجلس إدارتها- فقد كانت أول جمعية تقدم القروض متناهية الصغر بدون ضامن أو ضمان في مصر والوطن العربي، من خلال تكوين مجموعة من خمس سيدات يضمن بعضهن البعض، ليبدأن من خلالها عمل مشروعات صغيرة تدر عليهن عائداً مادياً، كما تعمل الجمعية على تقديم مجموعة متكاملة من التدريبات للسيدات المستفيدات من برنامج القروض الجماعية وذلك لمساعدتهن في تعلم المهارات اللازمة لإدارة مشروعاتهنّ بنجاح.

ولعلنا من هذه النقطة ننتقل إلى المحور الثالث وهو المحور الخاص بالفرق بين مفهوم الإقراض متناهي الصغر وبين التمويل متناهي الصغر، فمن خلال خبرتي في العمل التنموي لمدة تزيد عن 32 عامًا، أوضح أن هناك فرق شاسع بينهما، فالإقراض- وهو أساس عمل الجمعيات- كما ذكرت سابقًا يعمل على تمكين السيدات الفقيرات المعيلات لأسر، من خلال حصولهنّ على مبلغ صغير يستطعنّ من خلاله أن يبدأن حياة عملية متوسعة الخيارات والبدائل، كما أنها تقدم القرض بعد العديد من الدراسات التي تقيس مدى الاحتياج التمويلي للعميلات، وخدمات الإقراض متناهي الصغر هي خدمة قديمة الزمن، فكان "بنك جرامين" هو أول من قدم هذه الخدمة من خدمات الإقراض متناهي الصغر عام 1983، حيث يقدم قروضًا صغيرة إلى الفقراء دون اشتراط ضمانات مالية تساعدهم على القيام بأعمال بسيطة تدر عليهم دخلا معقولًا، وقد أسسه الدكتور/ محمد يونس في بنجلاديش، أما التمويل متناهي الصغر فهو يقوم على أساس تقديم الأموال للشرائح المهمشة دون ربطها بالتنمية.

وفي الحقيقة أنا بعتبر وجود شركات التمويل متناهي الصغر والبنوك وتقديمهما لهذه التمويلات هام، بشرط أن تقوم باستهداف فئات وشرائح أخرى غير تلك التي تستهدفها الجمعيات الأهلية، مثل الشباب، وفئات أخرى هي أمس الحاجة إلى هذه التمويلات؛ فأنا أرى أن استهداف الشركات لنفس فئات الجمعيات بمثابة ناقوس خطر على طبيعة عمل القطاع؛ حيث أنه يعمل على "تغريق" السوق وليس توسيعه، ولنأخذ من انيهار السوق العقاري عام 2008 في الولايات المتحدة الأمريكية مثالًا فبدايته كانت بعد ظهور شركات ربحيه رأت أن شريحة الفقراء أسهل شريحة يمكن استهدافها ودائمًا ما ستسدد القرض كما يقومون بتسديدها للمؤسسات المتخصصه الأخرى (شبيهة الجمعيات الأهلية في مصر)، ولكنهم لم يأخذوا في اعتبارهم أن التعامل مع هذه الفئات يحتاج إلى خبرة، وخصوصية وأهداف تنموية إن غابت يتضرر الكل.

لذا نحن نحتاج وبشدة إلى تفاعل كل الأدوار والكيانات مع بعضها البعض وليس التنافس؛ وذلك لمواجهة بطالة الشباب والعمل على خفض معدلات الفقر، وهناك بعض البنوك بدأت تعتمد على الجمعيات الأهلية كوسيط في عمليات الإقراض، وهذا لإيمانها الشديد بفعالية الدور الذي تقدمه الجمعيات، وسوف أتناول في مقالات قادمة تفاصيل وتحليل أكثر لظاهر التنافس بين البنوك وشركات التمويل متناهي الصغر وبين الجمعيات الأهلية العاملة في مجال الإقراض.

وخلاصة القول يا عزيزي القارئ، إن الجمعيات الأهلية هي أكثر الكيانات المرتبطة بالمجتمعات، وتسعى إلى تنميته دون السعي إلى أي عائد مادي من وراء العمل في مجال الإقراض، بل أنها تعيد استثمار كافة الأموال في تنمية الفئات المهمشة سواء تعليميًا، وصحيًا، وثقافيًا.

وسوف أتناول في مقالات عديدة قادمة مدى الاحتياج الكبير لإصقال هذا الدور بمزيد من الدعم سواء من الدولة أو من المانحين، فضلًا عن إزالة العقبات التي تحول دون تحقيق الجمعيات لهدفها، فضلًا عن حل كافة التحديات التي تقف أمامها، ولعل من أبرز التحديات التي تواجه عمل الجمعيات الأهلية هي التحديات المتعلقة في ظل تنفيذ القانون رقم (141) لسنة 2014 الخاص بتنظيم نشاط التمويل متناهي الصغر، بالإضافة إلى تحديات تواجهها في ظل القرارات الصادرة عن وحدة الرقابة على نشاط التمويل متناهي الصغر للجمعيات والمؤسسات الأهلية، والتحديات التي تواجهها من تدخل شركات هادفه للربح للتمويل متناهي الصغر، وهذه الموضوعات سوف نتناولها بالتفصيل في المقالات القادمة، وللحديث بقيه.