المؤسساتية: نجاح.. أم بلادة؟

21/05/2015 8
د. حمزة السالم

يتخرَّج جورج، طالب أمريكي، في جامعة مغمورة ببكالوريوس تخصص تاريخ قديم، فيُعيّن مباشرة في وظيفة مسئول التأشيرات في سفارة أمريكية لبلد ما، فإذا به يقوم بعمله بكفاءة تامة من الساعة الأولى.. فكيف يُمكن إنجاز هذا؟

أتوقع أن هذا الخريج الأمريكي يُسلَّم عند توقيعه لعقد التوظيف كتاباً أو كتابين ليقرأهما خلال سفره لمقر عمله الجديد.. وأتوقع أن يكون الكتاب عن الإجراءات المتّبعة، وعن بعض الجوانب من الثقافة المحلية للبلد التي قد يكون للثقافة آثار أو مُتعلِقات، متى فُهمت شرحت بعض التصرفات الغريبة أو المشبوهة لطالبي التأشيرة.. فإذا ما وصل جورج لمقر عمله وجلس على مكتبه، فإذا هو أمام خطوات تفصيلية في رسوم بيانية شجرية تقود نفسها بنفسها للقرار اللازم اتخاذه.. فإذا صادفته حالة لم تجد لها خياراً مناسباً أبلغ رئيسه ليرشده على الإجراء المناسب.

* وعادة ما يكون هذا الرئيس يتمتع بصلاحيات واسعة مرنة، ويكون مسئولاً عن قطاع واسع من أقسام السفارة مثلاً.. وأتوقع، أنه يتم تحديث مخطط تسلسل إجراءت العمل ليحتوي الحالة الجديدة.

*والمدير يقيّم مقدرات جورج القيادية والإبداعية من خلال تخارجاته وحلوله للحالات الخارجة نوعاً ما عن المخطط التفصيلي.. فمصير المنظمة والصناعة الدبلوماسية الأمريكية ومصير جورج مُعلقٌ إذاً بمقدرة رئيسه على تقييم مستوى الإبداعية والتخارج بالحلول.. والداهية المبدع يُدرك مدى عُمق دهاء وإبداعية مَنْ أمامه، ويُقدّر قيمتها.. والبليد يرى دهاء مقابله جنوناً وإبداعيته خبالاً.. ولذا الذكي المُبدع لا يحسد الذكي، ولكن ينافسه إيجابياً.. والبليد لا يسلم من حسده إلا الأشد بلادة منه.

* فهل المؤسساتية وسيلة حتمية تؤدي لتنظيم الأمور وتطوير المنظمة والتقدم بالصناعة المتعلقة بها، وتضمن نجاح التنقيب عن العقول؟.. الجواب: لا.. ليس بالضرورة.. فقد تنجح المؤسساتية في تسيير الأمور بكفاءة منخفضة، لا بكفاءة عالية.. كما لا تستطيع المؤسساتية أن تطور منظمتها، كما لا تستطيع تطوير الصناعة، إذا كان شاغلو المناصب الإدارية، لا يُحسنون - عجزاً أو قصداً أو تنظيمياً - تقييم المقدرات العقلية لموظفي المنظمة، أمثال جورج.

* والشواهد المُشَاهدة والمشهورة كثيرة، فمنها النموذج المؤسساتي في إدارة بريطانيا لمستعمراتها، الذي قصدت إدارته عمداً كبت المواهب القيادية الهندية، واقتصرت في المناصب الإدارية على البريطانيين، الذين كانوا مؤهلين لإدراك عباقرة القياديين الهنود من أشكال جورج، فاستخدم الإداريون البريطانيون مقدرتهم على تمييز العقل والإبداع من أجل كشف إبداعية الهنود لإخمادها وقتل همّة عباقرتهم.

* وهناك نموذج أرامكو المؤسساتي الذي استطاع مواكبة تسيير العمل بكفاءة، بتكلفة قد تكون غالية الثمن.

ولكن مؤسساتية أرامكو عجزت عن تطوير الصناعة النفطية أو تطوير المنظمة، والتطوير غير مُسايرة الزمن، فغيرنا يطوِّر ونحن نأخذ منه فنُساير العصر.. ودليل نجاح المؤسساتية هو تطورها عاماً بعد عام، لأن المنظمة تكتشف عباقرتها ومبدعيها عن طريق المؤسساتية عبر الزمن بطريقة تضاعفية.. والتطور غير التوسع فخذْ شاهداً مثلاً، كتطور شركات البترول العالمية.

تبدأ بحفّارة وتنتهي بعد عقد أو عقدين، وهي في أرجاء الأرض تنقِّب عن البترول وتحفر الآبار وتبني المحطات وتخترع الوسائل المُبتكرة الجديدة.. بينما أرامكو بدأت بحفّارة أمريكية وانتهت بآلاف الحفّارات الأمريكية والنرويجية وغيرها، ليس بينها حفّارة سعودية.

نجحت أرامكو في تسيير المهام كونها منظمة مؤسساتية، ولكنها لم تطوِّر الصناعة، ولم تستغن عن الخبراء والاستشاريين الأمريكيين.

* وذلك لأن الخبراء الأمريكيين هم من وضعوا المخطط المؤسساتي بتفصيلاته الدقيقة، تماماً كما وضعوا الحفّارة. وهم ما زالوا كذلك من يُغذي التجديد في هذا التنظيم المؤسساتي وتفصيلاته، تماماً كما جلبنا نحن الحفّارات المتقدمة من الخارج.. فنحن نُساير لا نطوِّر، بل ولا حتى نصنع.

*والسعوديون هم من وضعوا المديرين في هذه المنظمة المؤسساتية.. فلوم تطوير أرامكو على المديرين السعوديين لا على الأمريكيين، فأرامكو مستقلة لا تتبع لأجنبي إلا بخيار من السعودي نفسه، والأمريكي وحكومته غالباً ما تبذل علومها لمن يريد، ليس كطريقة الاستعمار البريطاني.

* ولذا، قد يجد الإداري السعودي الخارج من أرامكو صعوبة في قيادة منشأة أخرى.. لأن هذا الإداري لم يُشارك ولم يطوّر المؤسساتية التي خدمته في أرامكو، ولم يفهمها.. كالضابط العسكري الذي اعتمد في السلم على النظام العسكري في قيادة الجند، تراه يفشل في قيادتهم في الحرب لأنه لم يفهم القيادة، بل استخدمها ولم يفهم التكتيكات العسكرية، بل تبعَ تعليماتها.

*وهناك نموذج البنوك شبه المؤسساتي الذي استطاع تسيير العمل بكفاءة منخفضة وبأخطاء كثيرة وكبيرة، وعجز مع ذلك عن اللحاق بالصناعة ومواكبتها، فضلاً عن عجزه في تطوير الصناعة البنكية.. وهناك نماذج متنوعة من مؤسساتية الشركات، ولكن كلها تدور حول النموذج المؤسساتي البريطاني في الهند، المقتبس من منعهم العبيد تعلُّم القراءة والكتابة، لكي لا يصبحوا مفكرين قياديين، فيتمكنوا من الاستقلالية الاقتصادية، وبالتالي الاستقلالية السيادية.. حيث كان يُشنق العبد أو يُحرق إذا قرأ أو كتب.. بينما تراهم يعلمونه فنون القيام بالأعمال الإنتاجية في الزراعة والصناعة.. فلا يُعلَّم إلا ماذا يفعل لينفذ الأمر، لا كيف يفعل ليفهم سبب الأمر.

*ونحن أحرار، فتحت لنا الدنيا أبوابها، بعز المال وبتقدير الإنسانية اليوم للعقل البشري، لتعلمنا كيف نفعل ولكننا اخترنا بمشيئتنا وبأموالنا الاقتصار على علم ماذا نفعل.

نقلا عن الجزيرة