التمويل الإسلامي والتنمية.. تطورات على مدى 5 عقود

21/09/2014 0
د. حسن العالي

لقد جاءت الأزمة المالية العالمية الحالية وما نجم عنها من تداعيات خطيرة على النظام المالي العالمي وهي لا تزال متواصلة لغاية اليوم، وتأثرت الكثير من المؤسسات المالية التقليدية في المنطقة بصورة أكبر بتلك التداعيات التي أصابت المؤسسات المالية الإسلامية، لتؤكد مجدداً سلامة المبادئ التي تقوم عليها الصناعة المالية الإسلامية، كونها تمتلك العديد من المقومات التي تحقق لها الأمن والامان وتقليل المخاطر مثل الأمانة والمصداقية والشفافية والبينة والتيسير والتعاون والتكامل والتضامن، فلا اقتصاد إسلامي بدون أخلاق ومثل.

وهنا تثار تساؤلات حول علاقة التمويل الإسلامي بالتنمية، وما هي طبيعة هذه العلاقة؟ فمن المعروف أن كلا المفهومين- أي مفهوم التمويل ومفهوم التنمية- شهدا تطورات جوهرية على مدى العقود الخمسة الماضية، وجرت مياه غزيرة على كلا الضفتين، حيث باتا اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى التعريفات الإسلامية والشرعية لكل منهما.

ونتناول أولا تطور مفهوم التمويل. فبعكس النظريات الاقتصادية القديمة التي لم تجد فيها من يلعب أي دور في النمو الاقتصادي- وربما يكون دورا سلبيا بعض الأحيان أيضا- اهتمت النظريات الاقتصادية الحديثة كثيرا بالدور الذي يلعبه قطاع المال في التنمية الاقتصادية.

وفي بحث رائد عن أهمية الدور الذي يلعبه القطاع المالي في التنمية الاقتصادية يعود لمطلع ستينيات القرن الماضي، يرى الكابتن الأمريكيان جورلي وشو Gurley & Shaw أن أهمية القطاع المالي برزت من خلال عدة وظائف رئيسية.

ولعل العلاقة الأبرز بينهما تكمن في قيام المؤسسات المالية مثل البنوك وبنوك الاستثمار ومؤسسات الائتمان والأدوات المالية والأسواق المالية بالوساطة بصورة كفؤة وحرفية بين المدخرين والمستثمرين من جهة والمتمولين والمستثمرين أيضا من جهة أخرى.

وهذه الوظيفة كما نلاحظ تركز على تعظيم كفاءة استخدام الأموال الفائضة بما يخدم التنمية الاقتصادية. أي أن مساهمة المؤسسات المالية في التنمية لا يتأتى من خلال توفير التمويل اللازم لبرامج التنمية بل الإسهام الفعال في ترشيد ورفع كفاءة استخدام الأموال في تنفيذ تلك البرامج من خلال الآليات الداخلية لعمل البنوك والقائمة على قياس المخاطرة ودراسة تكلفة وعائد بدائل التمويل.

وقد وجد الباحثان من خلال دراسة نماذج التطور الاقتصادي في البلدان المتقدمة أن هناك علاقة سببية بين التمويل والتنمية تخرج من الأولى لتذهب إلى الثانية، وبالذات في الدول التي اتسمت بالتطور الصناعي مثل اليابان وألمانيا. أي أن التمويل يتعاظم دوره بصورة أكبر كلما ارتبط بتمويل الاقتصاد الحقيقي، بل يصبح هو المحفز الرئيسي للنمو الاقتصادي.

أما على مستوى مفهوم التنمية، فقد جرى تعريف التنمية الاقتصادية منذ مطلع الستينيات بأنها «العملية التي يتم بواسطتها، في بلد معين، تزايد مطرد في متوسط الدخل الحقيقي للفرد عبر فترة طويلة من الزمن». وهذا ما يسمى بالنمو الاقتصادي (economic growth).

تلا ذلك تطوير هذا المفهوم ليتم تعريفه بأنه «الزيادة المستدامة (sustained) في متوسط إنتاج الفرد أو العامل». وبذلك نجد أيضاً أن النمو الاقتصادي يعني وجود اتجاه مستمر غير متأرجح لنمو إنتاجية الفرد عبر فترة طويلة من الزمن (هذا وإن كان نمواً تلقائياً مقارنة بعملية التنمية).

إلا أن هذا المفهوم المبسط للتنمية اثبت فشله الذريع حينما باتت العديد من دول العالم تشهد نمواً اقتصادياً مضطرداً تزامن معه زيادة الأغنياء غنى والفقراء فقراً. فلقد بات من الواضح ان النمو الاقتصادي بحد ذاته لا يحقق التنمية بمفهومها الاجتماعي حينما لا تتزامن معه أية أهداف وآليات تطال الشرائح الأوسع في المجتمع.

من هنا بدأت الأمم المتحدة ومنذ الثمانينات بوضع تعريفات جديدة للتنمية باعتبارها عملية حضارية مستدامة وحقاً من حقوق الإنسان، حيث تعتبر «التنمية الشاملة عملية مجتمعية واعية ودائمة (sustained) من أجل إيجاد تحولات هيكلية وإحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية تسمح بتحقيق تصاعد مطرد لقدرات المجتمع المعني وتحسين مستمر لنوعية الحياة فيه».

وقد تم، أخيرا، التأكيد على عناصر تعريف مصطلح التنمية الشاملة- السابق ذكره- عندما أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مصطلح التنمية البشرية على عملية التنمية المرغوبة، وعرفها بأنها «عملية توسيع نطاق الخيارات المتاحة للناس وتمليك القدرات».

وهكذا نلاحظ أيضا أن مفهوم التنمية السليم التصق بتنمية الاقتصاد الحقيقي والإنسان نفسه من خلال تملكيه القدرات اللازمة للعمل والإنتاج. لذلك قلنا من البداية ان كلا مفهومي التمويل والتنمية بمضامينهما الحديثة اقتربا أكبر من أي وقت مضى بتعريفهما الإسلامي.

لذلك، نحن نرى أن الأزمة المالية العالمية الراهنة تمثل فرصة تاريخية للقطاع المالي الإسلامي ليثبت جدارته ونجاحه في مواجهة الأزمات، وأن يمثل ملاذا آمنا لرؤوس الأموال والاستثمارات العربية والإسلامية وغير الإسلامية.

إن الاقتصاد المالي الإسلامي يمكن أن يسهم في علاج هذه الأزمة من خلال عدة نقاط منها تعديل أسلوب التمويل العقاري، ليكون بإحدى الصيغ الإسلامية ومنها أسلوب المشاركة التأجيرية، بالإضافة إلى ضبط عملية التوريق لتكون لأصول عينية وليس للديون، وهو ما يتم في السوق المالية الإسلامية في صورة صكوك الإجارة والمشاركة والمضاربة، أما الديون فيمكن توريقها عند الإنشاء ولا تتداول، وهو ما يتم في السوق المالية الإسلامية بصكوك المرابحة والسلم والاستصناع، والتي يزيد حجم التعامل بها رغم حداثتها على 180 مليار دولار وتتوسع يوماً بعد يوم وتتعامل بها بعض الدول الغربية.

كما يمكن منع أساليب المضاربات قصيرة الأجل من البيع على المكشوف والشراء بالهامش وهو ما تم إثر الأزمة في أميركا وإنجلترا، بالإضافة إلى عدم التعامل بالمشتقات مثل المستقبليات والتعامل بدلاً منها بأسلوب بيع السلم.

وجعل الخيارات بدون مقابل كما قرر الفقه الإسلامي والانتهاء عن التعامل في المؤشرات بيعاً وشراء والانتهاء عن الفوائد الربوية واستخدام أساليب المشاركات والبيوع، ووضع ضوابط للمعاملات ووجود هيئات متخصصة للإشراف والرقابة على الأسواق والمؤسسات في إطار الحرية المنضبطة التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، وفوق ذلك كله العمل على جعل الاقتصاد أخلاقيا ووضع السبل التي تساند الالتزام بالأخلاق الحميدة في التطبيق.

نقلا عن اليوم