النظام المصرفي الأوروبي لا يزال ضعيفا

24/07/2014 0
د. محمد رياض حمزة

رغم مرور ست سنوات على تفجر الأزمة المالية العالمية ( 2008) ، ورغم احتواء الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة لتبعات الأزمة فإن النظم المالية ، المصرفية تحديدا، لا تزال واهنة ويُخشى أن يتسبب ضعفها بأزمة جديدة، فالتريليونات التي ضختها حكومات الدول الرأسمالية في بنوكها خلال السنوات الست الماضية ، بما عرف بالتيسير الكمي النقدي، لم تكن كافية لإعادة فاعلية النظم النقدية للإسهام في تدوير عجلة الاقتصاد نحو النمو المنشود ، وبقيت نسب النمو المعلنة للدول الرأسمالية قريبة من أعشار الواحد بالمائة .

ذلك يؤكده قرار البنك المركزي الأوروبي الذي أعلن بأنه سيضخ أكثر من 700 مليار يورو (تريليون دولار) إلى البنوك في منطقة اليورو بهدف توفير قروض منخفضة الفائدة للشركات والمستهلكين . وذلك في أحدث محاولات رئيس البنك “ماريو دراجي” لتحفيز اقتصاد منطقة العملة الأوروبية الموحدة.وذكرت وكالة “بلومبرج” للأنباء الاقتصادية أنها أجرت مسحا شمل 45 محللا اقتصاديا حيث اتفقوا على أن برنامج الإقراض الموجه الذي يعتزم رئيس البنك المركزي الأوروبي إطلاقه يستهدف إنعاش الاقتصاد الحقيقي وفي الوقت نفسه المساعدة في توفير مستويات جيدة من السيولة في النظام المالي الأوروبي.وكان “دراجي” قد ألمح إلى اعتزام البنك المركزي إطلاق حزمة إجراءات تحفيز جديدة في شهادته أمام البرلمان الأوروبي يوم 14/7/2014 بمدينة ستراسبورج الفرنسية حيث قال “إن هناك حوافز قوية يتم توفيرها لتعزيز الإقراض” .يذكر أن البنك المركزي الأوروبي يرى أن قلة القروض للشركات والأسر يمثل نقطة ضعف أساسية في التعافي الهش لاقتصادات منطقة اليورو. في الوقت نفسه فإن برنامج القروض منخفضة التكاليف جزء من حزمة إجراءات أوسع نطاقا أعلنها البنك في يونيو الماضي لتحفيز الاقتصاد المتعثر.

شهد العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين تحولات في العقائد الفلسفية وتطبيقاتها (الإيديولوجيات) فانهارت النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية التي تبنت الماركسية بانهيار الإتحاد السوفييتي عام 1991، ولم يكن ذلك إلاّ سقوطا سياسيا للنخب الحاكمة. وساد العالم تصور بأن النظام الرأسمالي، نظام السوق، على غرار ما تطبقه الولايات المتحدة الأمريكية، هو النظام الذي سيأخذ بيد الشعوب الفقيرة إلى مصاف دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ولو أن الرأسمالية في أوروبا الغربية تطبق بأساليب مختلف عن الولايات المتحدة الأمريكية. فسارع العديد من الدول الفقيرة والنامية في العالم إلى “ الخصخصة” الذي كان كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المشجعين والراعين الرسميين بالتنسيق مع الولايات المتحدة لذلك النهج والتحولات.

ومنذ عقد الثمانينات من القرن العشرين تنبهت الصين إلى الخلل في النظم الاشتراكية، فأتاحت حريات للقطاع الخاص اقتصادية محدودة و تنامت لتشكل اليوم 20% من مجال الاقتصاد الصيني.

ومع بدء الألفية الثالثة عادت أزمات النظم الرأسمالية متزامنة مع ظهور تبعات ونتائج الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج العربي والبلقان وأفغانستان خلال العقدين الماضيين. وبتفجر الأزمة المالية – الاقتصادية منتصف عام 2008 بانهيار القطاع العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أدى إلى انهيار عدد من أعمدة النظام الرأسمالي الأمريكي متمثلا بمديونيات شركات مالية وإنتاجية كبرى، مما أدى إلى اللجوء لتدابير غير مسبوقة لتتدخل الحكومة الاتحادية الأمريكية وتمنح قروضا لتلك لعدد من الشركات المتعثرة الكبرى ، ومعظمها بنوك، التي كانت على وشك الإفلاس من خلال شراء أصولها بمبالغ تجاوزت ثلاثة تريليونات دولار (التريليون ألف مليار والمليار ألف مليون). وتفاعلت الأزمة المالية الأمريكية ليمتد تأثيرها إلى النظم الرأسمالية الأوروبية الغربية وفي العالم أجمع .وبحلول عام 2010 اضطرب الاتحاد الأوروبي بتفجر سلسلة من الأزمات في معظم دوله الـسبعة والعشرين ، فالأزمة عصفت بشدة باقتصادات كل من اليونان وأيرلندا والبرتغال وإيطاليا وأسبانيا.

وتقف الدول النامية ذات الاقتصادات المتخلفة تتساءل: هل شاخت الرأسمالية ولم تعد قادرة على التأقلم مع متغيرات الاقتصاد العالمي فأوهنت نظمها الأزمات المالية والائتمانية والاجتماعية؟ أم أنها “وعكة” عابرة كما يرى المنظرون أن ما يحدث للنظم الرأسمالية متوقع وسرعان ما تسترد أنشطة السوق عافيتها، إذ يسجل التأريخ الاقتصادي الحديث أن دورة نظم السوق الرأسمالية تتعاقب لولبيا قد يقصر بعضها وقد يطول بين 5 إلى عشرة أعوام. ومنذ أن تفجرت الأزمة المالية الاقتصاد العالمي منتصف عام 2008 توالت انتكاسات النظم الرأسماية تباعا، فتكشف أن معظم الشركات على وشك الإفلاس الأمر الذي دفع حكومات الدول الرأسمالية، كلها، أن تتدخل لشراء أصول الشركات المتعثرة، مما أدى إلى ضعف خزائنها، لتعلن الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس 2011 “ أن عجز الموازنة تجاوز قيمت الناتج المحلي الإجمالي لأول مرة في تأريخها، ليبلغ أكثر من 14 تريليون دولار.

وبدأت تتكشف مشاكل متراكمة لا حصر لها كمشكلة تضاعف معدلات البطالة، وكانت مشكلة البطالة تتفاقم في معظم الدول الرأسمالية التي تسببت بالاضطرابات والاحتجاجات وما صاحبها من أعمال عنف كما حدث في اليونان وبريطانيا والبرتغال وأسبانيا. واليوم وبعد سبعة أعوام من حلول الأزمة المالية العالمية، فإن تبعاتها لا تزال تتفاعل في عدد من دول العالم، إذ تواجه معظم الدول الرأسمالية وبنسب متفاوتة تصاعد معدلات البطالة خلال عام 2014 : ففي الولايات المتحدة الأمريكية فإن معدل الباحثين عن عمل السنوي 6.7%، كندا 8.4%، بلجيكا 8.5%، فنلندا 8.4%، فرنسا 10.4%، ألمانيا 5.1%، وفي اليونان 27.5%، ايرلندا 11.9%، إيطاليا 13%، وفي أسبانيا 25.6%، بريطانيا 7.2%، اليابان 3.7%، ايرلندا 11.9%، كندا 7%. دول الإتحاد الأوروبي ال27 فإن معدل الباحثين عن عمل بلغ 11.9%.

وبالرغم من كل ما قامت به من إسناد مالي للشركات والبنوك فإن الإقتصادات الرأسمالية الكبرى لا تزال تعاني من تبعات أزمة 2008. المتمثلة بضعف النمو الحقيقي ونسب عالية من البطالة وبرامج تيسير نقدي بضخ المليارات من العملات التي لا يعرف مدى آثارها التضخمية لاحقا.

ومن التحولات الكبرى في النظم الرأسمالية توجه معظم شركاتها ذات الإنتاج السلعي المادي إلى آسيا توخيا لمضاعفة الإرباح من خلال خفض التكاليف الكلية للتشغيل.

واليوم وفي الوقت الذي تعاني دول العالم من تبعات أزمات الاقتصادات الرأسمالية تتصدر الصين والهند قيادة النمو وتثبيت أعمدة الاقتصاد العالمي، ولعل الصين تتنامى بتسارع غير مسبوق لدولة تجاوز عدد سكانها المليار و300 مليون.

فالصين ومنذ عام 1979 تحولت إلى مقصد استثماري فبدأت الشركات الغربية تُرَحِّل شركاتها إلى الصين متوخية خفض كلف الإنتاج الذي مصدره رخص أجور الأيدي العاملة ورخص المواد الأولية لمنتجاتها، ولم يكن في عام ( 1979) أكثر من 100 شركة أجنبية تعمل في الصين، وفي نهاية القرن العشرين تصاعد عدد الشركات الغربية العاملة في الصين إلى عشرات الآلاف شركة، وفي 2014 تجاوز 300 ألف شركة صغيرة ومتوسطة وكبيرة تستثمر في مختلف الأنشطة الإنتاجية وتشغل أكثر من 30 مليون مواطن صيني. وسجلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الصين زيادة بنسبة 18.4% عام 2013 لتصل إلى مستوى نقدي قياسي قدر بأكثر من 300 مليار دولار، كما حققت الاستثمارات الصينية في الخارج أيضاً مستوى قياسياً، فيما تجاوزت القروض التي منحتها الصين للدول النامية قروض البنك الدولي.

وبالعودة إلى واقع النظم الرأسمالية في منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة فإن تدخل الحكومات مشاركة البنوك والشركات المتعثرة بإقراضها المليارات ( برامج التيسير الكمي النقدي) يعد تحولا غير مسبوق في نهج النظم الرأسمالية، وإن خروج الرساميل الكبرى إلى الصين ذات النظام الاشتراكي يعد تحولا غير مسبوق أيضا، وإن توالت أزمات النظم الرأسمالية مستقبلا، وإنها متوقعة، فيتوقع أن تتخلى النظم الرأسمالية عن تلك المبادئ التي دأبت عليها لقرون.

نقلا عن جريدة عُمان