الهواتف الذكية وإعادة تشكيل الوعي الجمعي

20/02/2013 1
د. عبد العزيز الغدير

عدد من الأصدقاء ممن تجاوزوا العقد الرابع من العمر يقولون إنهم ما إن تعاطوا مع الهواتف الذكية وبرمجياتها ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحوا على تواصل معها طوال الوقت إلا وتغيرت كثير من العادات اليومية في حياتهم حيث أصبحت الصحف المقروءة آخر ما ينظرون إليه إن فعلوا، ولا ينظرون إلى التلفاز إلى ما ندر، ولا يتواصلون مع أفراد أُسرهم وإن جلسوا مع بعضهم بعضا فكل ينظر في عالمه الذي يعنيه والمجموعات التي يتواصل معها.

ويؤكد أغلبهم أن ساعات طويلة يمضونها في النظر بشاشات هواتفهم الذكية لمتابعة الأخبار وكل ما هو جديد من تطورات محلية ودولية ومتابعة ما يطرحه المفكرون وأصحاب الرأي وصناع القرار ومتخذوه محليا ودوليا ومناقشات مع الأقارب والأصدقاء والزملاء إضافة إلى ما يتلقونه من حكم ونكت وشعر ومواقف مضحكة، ويؤكدون أن هذه الأوقات هي على حساب ما كانوا يخصصونه من أوقات لمتابعة وسائل الإعلام التقليدية وعلى حساب التواصل الاجتماعي المباشر مع الأقارب والأصدقاء والزملاء والجيران وعلى حساب الأوقات التي يخصصونها لقراءة الكتب ومتابعة أعمالهم.

وأقول ويقولون هم أيضاً إن هذه الوسائل حققت للجميع الانتقائية في المشاهدة والمتابعة حيث تمكن الجميع من متابعة الوسائل والأفراد الذين يريدون بالصوت والصورة ومعرفة آخر الأخبار وآخر التطورات وأحدث الأفكار والحوارات والنقاشات والصراعات الفكرية وغير الفكرية، وكل ذلك بطبيعة الحال أعاد تشكيل خريطة الوعي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة وهز المنظومة المعرفية وخريطة الثوابت والمتحولات والمواقف الإيجابية والسلبية السابقة وأصل لميول واتجاهات ومواقف وسلوكيات جديدة حيال القضايا والأفكار والأفراد كافة.

ويؤكد هؤلاء جميعاً أنهم أصبحوا في حالة من الذهول من مستوى الوعي الذي يتحدث به أبناؤهم الصغار الذين استخدموا مبكرا وكذلك أبناؤهم في سن الشباب حيث يجمعون على أنهم لم يعودوا يفهمون القواعد الفكرية لهذا الجيل الجديد وكيفية التعامل معه بإيجابية ذلك أن خريطة وعيه تختلف تماما عن خريطة وعيهم التي أصبحت في منزلة بين منزلتين نتيجة لتعرضهم لوسائل صناعة وعي قديمة وتقليدية والوسائل الحديثة في حين أن أبناءهم تعرضوا للوسائل الحديثة مباشرة وتواصلوا مع عالم مفتوح زمانا ومكانا.

دائما أقول إن اختراع السيارة لم يؤثر في صناعة النقل فقط حيث حول الوسائل القديمة إلى تراث وسهل حركة الانتقال بل إن هذا الاختراع أعاد تشكيل خريطة المدن حتى أصبحت مدنا متشابهة بشكل عام في كل دول العالم وأصبحت مساحة ونوع الشوارع قضية مهمة جداً في عالم العقار واستخداماته، وبالتالي حق لنا أن نسأل إذا أعادت السيارة تشكيل خريطة المدن فما مدى أثر الهواتف الذكية وبرمجياتها ومواقع التواصل الاجتماعي في إعادة تشكيل الوعي الجمعي؟ وهل سيتشابه الوعي الجمعي في كل دول العالم كما تشابهت مدنه؟ وهل ولت نظرية توحيد مصادر التلقي إلى غير رجعة؟ وهل فقدت الحكومات القدرة على تشكيل وعي مواطنيها؟ وهل من الممكن لحكومات الدول أن تتدخل بشكل فاعل لصناعة وعي مراد في أذهان شعوبها أم الفرصة ولت إلى غير رجعة؟

تقول الدراسات إن معدلات نمو استخدام الإنترنت في تزايد وكذلك استخدام الهواتف الذكية وبرمجياتها وإنه يوما بعد يوم يتزايد عدد الأشخاص الذين يستعملون فيسبوك وتويتر ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى للحصول على الأخبار المحلية والدولية والمعلومات والمعارف والتساؤل وإثارة الحوارات وتبادل التجارب والخبرات في كل ما يتعلق بأمور حياتهم الشخصية والعملية وكل ذلك على حساب الوسائل القديمة التي لا تمكنهم من التفاعل والتواصل باتجاهين ومن صناعة المحتوى وعرض أفكارهم وتلقي ردود الأفعال بشكل سريع.

وأكاد أجزم أننا نمر بمرحلة البرزخ من جهة وسائل التواصل ومرحلة البرزخ من جهة التحول الثقافي ومنظومة الوعي الجمعي وأننا مقبلون على منظومة ثقافة ووعي تتجانس مع تلك المتواجدة في الدول الغربية المتقدمة التي باتت النموذج القدوة والملهمة لشعوب العالم لما حققته من نجاحات في المجالات كافة حتى نالت صفة التقدم مقابل صفة التخلف التي ترزح تحت آثارها شعوب العالم النامي والمتراجع.

وكل راصد متجرد لا تخطئ عينه التحولات التي يشهدها عالمنا العربي نتيجة هذه التحولات الثقافية والفكرية الجمعية التي تصطدم بجمود وتكلس في الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة الأنظمة والنخب الحاكمة وكأن الموقف في ثبات وأن التحولات الجارية ما هي إلا تحولات سطحية لا تلبث أن تنقشع كما ينقشع السحاب في حين أنها تتعمق وتتجذر بشكل متسارع ومؤثر.

أحد الأصدقاء يقول لي إنه في ذهول وحالة من العجز وضعف الحيلة في قضية تربية أبنائه بعد أن شاهد ما شاهد مما تصل له عين وأذن المتواصل مع مواقع التواصل الاجتماعي من أفكار وصور ومشاهد في المجالات كافة بما في ذلك مجال الغرائز الجنسية، وإنه لا يعلم كيف يوجه أبناءه الصغار فضلا عن أبنائه وبناته المراهقين مع حقيقة أن المنع سياسة غير مجدية بتاتاً ذلك أن الحرمان يولد الضعف والرغبة والانحراف.

والسؤال هل تقف حكوماتنا اليوم موقف هذا الأب نفسه الذي أسقط بيده فلا هو قادر على منع أبنائه من استخدام الأجهزة الذكية وبرمجياتها ومن الوصول لمواقع التواصل الاجتماعي المتزايدة كماً ونوعاً وأثراَ ولا هو قادر على توجيههم للوصول إلى ما يفيدهم وتجنب ما يضرهم؟! الواقع يقول إن هذا هو الحال والأمل كل الأمل أن تعمل حكومتنا على البحث عن حلول ناجعة للتعاطي مع العالم الافتراضي الجديد من أجل وعي جمعي إيجابي مفيد ومحفز لتنمية شاملة ومستدامة في المجالات كافة.