تداعيات الأزمة العالمية ..... تأثيراتها على اقتصادياتنا وسبل العلاج !!!!!

25/05/2009 2
د . جمال شحات

وقعت الأزمة المالية العالمية وغدت أمرا واقعا نلمس أثارها يوما بعد يوم. البعض منا لم يكن يتوقع حدوثها والبعض الأخر ما زال يعاني الويلات الموجعة من تداعياتها المدمرة والبعض الأخر يقف عاجزا إزاءها لا يعرف كيف يتصرف أو ماذا يفعل أو كيف يتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها الأزمة. الصدمة كانت قوية ولم تكن متوقعة لدى الكثيرين من الناس بل والكثيرين من المسئولين والمتخصصين الذي ظلوا لمدة طويلة ينفوا تأثيرها على اقتصاديا تنا وإننا بمنأى عنها .

ترتبط الأزمة الراهنة التي اقترنت بتفجر ملف الرهون العقارية في الولايات المتحدة الأميركية قبل نحو عام، بنسق النمو الرأسمالي الذي ساد منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم. وفي ما يتجاوز التداعيات الآنية لهذه الأزمة ـ وما رافقها من انهيار للأسواق وإفلاس للمؤسسات ومن تسارع حركة الاندماج بين الشركات الدولية العملاقة ـ فإن جوهر المسألة يدور حول الإشكالية التالية: أي علاقة بين الدولة والأسواق في سياق تطور النظام الرأسمالي؟ بيد أن هذه الحقبة التي امتدت حتى أواسط سبعينيات القرن العشرين، اتجهت بدورها نحو الأفول التدريجي، تحت وطأة التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي وميل معدلات الربح فيه نحو الانخفاض، خصوصا خلال أزمة الركود التضخمي التي تلت صدمتي أسعار النفط في السبعينيات. وقد أفسحت هذه التطورات المجال أمام   ظهور معالم حقبة جديدة من النمو الرأسمالي، تميزت بقدر كبير من الحنين إلى تلك الأنساق من الرأسمالية التي سبق أن سادت في القرن التاسع عشر بتأثير من فكر آدم سميث. فكانت العودة المتجددة إلى فلسفة تحرير الأسواق وإطلاق العنان لحركة رأس المال وإعادة هيكلة الأنظمة الضريبية والحد من تدخل الدولة.

ان ما يشهده العالم راهنا من »تدويل« لأزمة البورصات وانتقالها تدريجيا إلى أحشاء الاقتصاد الحقيقي، يذكر بتلك الأزمات الكبرى التي عرفها العالم في القرن التاسع عشر، والتي تختلف جذريا، من حيث محدداتها وعمق تأثيراتها وشمولها الجغرافي والقطاعي والزمني، عن الأزمات الموضعية والمحدودة الأثر نسبيا التي شهدها الاقتصاد الرأسمالي خلال العقود الأربعة المنصرمة.

وقد بات من شبه المؤكد إن العالم يتجه نحو أشكال من الانكماش والركود بل ربما أيضا الكساد، بحسب ما تشير إليه التقارير الصادرة عن مختلف المنظمات الدولية المتخصصة. وقد بدأ يتجلى ولو مع بعض التأخير حجم التكاليف الهائلة والتشوهات البنيوية الصارخة التي انطوت عليها هذه الحقبة من تاريخ الرأسمالية: تضخم قياسي للاقتصاد المالي والريعي على حساب الاقتصاد الحقيقي، تراجع عام في حجم الاستثمار المنتج كنسبة من الناتج المحلي، ازدياد حاد في الفوارق بين الأغنياء والفقراء على مستوى البلدان وداخل كل منها، تقلص ملحوظ في القيمة الإجمالية للأجور كنسبة من مجموع المداخيل، انهيار مدو في آليات ونظم الرقابة على عمل الأسواق المالية.

وإذ يصعب التكهن بالمدة التي سوف تستغرقها تداعيات هذا الانهيار العظيم، فإن أي بديل مرشح للتبلور في سياقها سوف يتركز من دون شك على إعادة صياغة توازن جديد بين الدولة والأسواق. ويتطلب ذلك استحداث صيغ متجددة تقوم على إعادة تحديد وظائف الدولة في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي السياسي.

ولكن ولادة هذا البديل لن تكون مسألة سهلة التحقيق، إذ ستتم على أيدي لاعبين اثنين أساسيين يعاني كل منهما من صعوبات خاصة به فالشركات العملاقة في القطاع الخاص المثقلة بمفاعيل الأزمة والمتجهة نحو درجة أعلى من التركز والتمركز بفعل حركة الاندماجات الجارية راهنا، والدولة التي افتقدت في العقود الأربعة المنصرمة الكثير من العناصر المكونة لوظائف الدولة الراعية  مما يرجح اقتران تلك الولادة بصراعات حادة بين البلدان أو مجموعات البلدان، وكذلك داخل كل منها، قبل أن يتم التوصل إلى إنتاج إعادة توزيع الربح والخسارة بين القوى الاجتماعية المختلفة المرشحة لان تشكل القاعدة الاجتماعية للبديل الموعود.

وعلى المستوى العربي تبدو التداعيات كبيرة، بل كبيرة جدا. فقد أصابت الأزمة العالمية في الصميم المرتكزات الأساسية للنموذج الريعي ـ النفطي العربي القائم على الإفراط في إنتاج النفط وتصديره، وتكوين الفوائض البترولية وتوظيفها في استثمارات عقارية وريعية وفي محفظات وسندات مالية وإيداعات مصرفية بمعدلات مشكوك في ثباتها... إن هذا كله لم يوفر ضمانات كافية لإبقاء العالم العربي عامة، والخليج خاصة، في منأى عن التبعات الخطيرة للأزمة.

وإضافة إلى مئات المليارات من الدولارات من الخسائر المحققة عربيا حتى الآن ـ وفقا للمعطيات والمؤشرات الإحصائية والمالية المسجلة في الوقت الحاضر والتي تبقى عرضة للتقلبات ـ ثمة مخاوف من أن يتجه »النظام العالمي« نحو استسهال تحميل بلدان المنطقة، وغيرها من البلدان الناشئة، جزءا مهماً من التكاليف الكامنة للمعالجات التي يعمل على هندستها راهنا في دوائر القرار وفي القمم العالمية المختلفة.

ويتوقع أن ينعكس هذا الأمر على نسق أداء اقتصاديات بلدان المنطقة ومعدلات نموها وحجم وبنية استثماراتها، وخصوصا قدرتها على توليد ما يكفي من فرص عمل منتجة في مواجهة تدفقات في عرض العمل يصعب إلى حد كبير استيعابها. كما سينعكس على أوضاع الموازنات والحسابات الخارجية وموازين المدفوعات وشبكات المبادلات الخارجية العائدة إلى تلك البلدان. وهذا ما سوف يرتب كلفة اقتصادية واجتماعية باهظة تطال البلدان العربية عامة و المنتجة للنفط  خاصة. كذلك فإن غلبة أجواء الانكماش والركود واستمرار أزمة الثقة في أسواق المال العالمية وفي علاقة المصارف العالمية والإقليمية بعضها مع بعض، قد ينعكسان بصورة سلبية حادة على أداء القطاع المصرفي  وقدرته على الصمود، في بلدان تضطلع فيها المصارف بدور »القاطرة«، سواء في عملية النمو الاقتصادي أو في عملية إدارة الدين العام المتعاظم. ومما يعزز حجم المخاطر عدم توفر رغبة جدية أو جهوزية مقنعة لدى الطبقة السياسية للانخراط في عملية إصلاح سياسي واقتصادي داخلي، � فكيف نستطيع تجاوز الأزمات و ماذا نفعل لمواجهة الانكماش الاقتصادي الرهيب الذي ألقى بظلاله على العالم كله والذي قد يستمر لفترة طويلة (لا قدر الله)؟ ماذا نفعل لتفادي خطر الانزلاق في ركود اقتصادي واسع النطاق ودرء شبح كساد عميق قد يطول أمده لسنوات عدة قادمة؟ كيف نتعامل مع هذه الأوقات العصيبة التي عبرت رياحها على ديارنا كلنا من مشرق الأرض إلى مغربها؟ ما هي الخطوات الاحترازية وأدوات الإصلاح المطلوب منا إقرارها لإخراج اقتصادياتنا من دائرة الركود وإنقاذه من مخالب الكساد؟ �  وما هي الوسائل والآليات التي يجب علينا أن نستعين بها للتصدي للازمة العالمية الحالية؟ تساؤلات كبيرة ذات أبعاد أكثر عمقا ليس بوسع شخص أو عدة أشخاص إن يقدم لها حلولا اسعافية وافية أو علاجات قاطعة شافية، ولكني اسأل الله تعالى أن يقدرنا  في تقديم  بعض المقترحات و التي نحتاج لجهد كل مخلص لوضع خطط لإنعاش النمو المتباطئ وبرامج تحفيزية لتعزيز النظام المالي والحد من تفاقم الكساد الاقتصادي وتخطي التأثيرات السلبية للجمود المالي الناتج عن أزمة التمويل وشح السيولة وتشديد إجراءات الائتمان ومعايير الاقتراض.

مكافحة الركود الاقتصادي: بادئ ذي بدء لا بد من مراعاة معاناة الناس وأوضاع الشركات المأزومة من خلال إجراء تخفيضات ضريبية للإفراد والشركات. إن تخفيض الأعباء الضريبية على الشركات (لا سيما الصغيرة والمتوسطة منها) والمواطنين (لا سيما الفئات الاجتماعية غير الميسورة وذوي الدخول المتدنية) سوف يساعدهم وبلا شك على تجاوز الصعوبات الحياتية اليومية التي أفرزتها الأزمة المالية العالمية ومضاعفاتها على الحالة العامة للاقتصاد، الأمر الذي أدى إلى إعاقة النمو وتوقف عجلة الاقتصاد معلنا بذلك بداية مرحلة جديدة من الانكماش والركود. � كذلك لا بد من منح دعم نقدي وعيني لأسر الطبقات الدنيا والمتوسطة من المجتمع والعمل على تفعيل اكبر للاستقطاعات الاجتماعية المالية (كفريضة الزكاة مثلا والتي هي من أركان الإسلام  من اجل مساعدة الفقراء والمحتاجين والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة الذين لا حول لهم ولا قوة في هذه الظروف الصعبة. فنحن، ومن خلال هذه السياسات المالية الضريبية، نعقد الأمل على زيادة مدا خيل الأفراد   ورفع هوامش الأرباح الصافية للشركات after-tax net profits من اجل تشجيع الطلب الاستهلاكي والإنفاق الاستثماري (الإنتاجي) وبالتالي تحريك عجلة الاقتصاد وإنعاش النمو المتراخي. � كذلك لا بد من تكريس الإنفاق الحكومي الرأسمالي وضخ الأموال المخصصة في الموازنة العامة في قطاعات الإنتاج المادي (كالصناعة والزراعة والتجارة) وإقامة مشاريع تنموية حيوية متنوعة من اجل خلق فرص عمل وتشغيل العمالة العاطلة عن العمل، الأمر الذي نستطيع معه توليد الدخل وبالتالي محاربة الفقر وتحسين الأوضاع المالية والاجتماعية للمواطنين والحد من نمو البطالة مرتفعة النسب أصلا. كذلك لا بد من إنشاء مشاريع إنتاجية وزراعية وتجارية  (صغيرة او متوسطة الحجم) في مناطق جيوب الفقر والبطالة القسرية وذلك لمساعدة سكان هذه المناطق على تحسين ظروفهم المعيشية وأحوالهم المادية وإعطاء هذه الشريحة المهشمة من المجتمع فرصة حقيقية للمساهمة في النهوض بالاقتصاد  المحلي.

احتواء التضخم وغلاء الأسعار: لا بد من إجراء تخفيضات على الضرائب غير المباشرة (كضريبة المبيعات  أو ضريبة القيمة  المضافةاو الرسوم أو الجمارك) على المنتجات الأساسية والمواد الأولية ومدخلان الإنتاج (كالمحروقات من ديزل وغاز  وبنزين) ومستلزمات الإنتاج (كالحديد الذي يدخل في الصناعات التعدينية مثل المعلبات الغذائية والاسمنت الذي يستخدم في قطاع البناء والإنشاءات العقارية) من اجل تخفيض الأسعار ودفع معدلات التضخم إلى الهبوط وبالتالي تحفيز الإنفاق وتنشيط الأسواق وصولا إلى زخم اقتصادي أكثر نموا. إن تخفيض الأسعار هو المحرك الأساسي لعجلة النمو المتباطئ بسبب ازدياد وتيرة الطلب على السلع والخدمات.

تسهيل شروط الاستثمار: لا بد من منح تسهيلات وحوافز استثمارية من اجل توفير مناخ جاذب لتوليد استثمارات عربية بينية وأجنبية مباشرة وتحرير الاستثمارات الأفقية (الاستثمارات في استخراج البترول ومشتقاته) وذلك لجلب جداول من العملات الصعبة وإيجاد فرص عمل للمواطنين من شانها ان تساهم في زيادة دخول الأفراد ورفع مستوى الخزينة العامة من الإيرادات الضريبية التي يتم استيفاءها من الجهات المستثمرة وبالتالي تحفيز الطلب الاستهلاكي والإنفاق الحكومي العام على السلع والخدمات وزيادة معدلات استثمارات الإعمال، الأمر الذي سيؤدي إلى تنشيط الدورات الاقتصادية بطيئة الحركة � ولا بد أيضا من تخفيف قواعد المنافسة لا سيما في ظل مناخ الأعمال المتراجع حاليا إذا ما أردنا تدفق رؤوس أموال القطاع الخاص وتشجيع المستثمرين) وتحسين ثقتهم على تعزيز نشاطاتهم الاستثمارية في مختلف القطاعات الاقتصادية كالطاقة والنقل والتعدين والاتصالات والتكنولوجيا والإسكان والعقارات والسياحة ... الخ. ولكي تؤتي الاستثمارات المرجوة ثمارها لا بد لنا أيضا من العمل على تحرير حركة المبادلات التجارية بين الدول إذا ما رغبنا في زيادة معدلات التدفق التجاري من استيراد وتصدير وصولا إلى تحقيق المنفعة المشتركة لجميع الأطراف المعنية

توفير السيولة المالية: لا بد من تحرك حازم باتجاه التصدي لازمة السيولة ومحدودية النقد ومعالجة الأزمة الائتمانية وندرة القروض الشخصية والاستثمارية وذلك من خلال تبني سياسة مالية تتمثل في التوسع المالي. فلجمع الأموال مثلا يمكن إصدار سندات أو صكوك متدنية القيمة أو معفاة من الضرائب أو ذات عائد اكبر لتشجيع المستثمرين والشركات على شرائها، ومن ثم ضخ هذه الأموال في البنوك والمؤسسات والأسواق المالية. ولا بد من تقديم مساعدات نقدية للشركات المتضررة التي لا تملك اللجوء إلى تمويل مشاريعها عن طريق الاقتراض من المصارف ومؤسسات إقراض المال في ظل شح المعروض النقدي وعجز مصادر هذه الشركات على التمويل الذاتي نتيجة للصعوبات الجمة التي تواجهها في الحصول على سيولة. كذلك لا بد من تقديم حزمة مساعدات مالية وغيرها للمصانع والمشاغل والمزارع التي تعاني من أزمات مختلفة كعدم القدرة على الاستمرار في السوق أو مواجهة خطر الإغلاق أو قد تجد نفسها على وشك الإفلاس أو مضطرة إلى تسريح عمالها. � ولابد أيضا من حث البنوك المركزية على اعتماد إجراءات نقدية أكثر مرونة وذلك بتسهيل شروط منح القروض من خلال خفض أسعار الفائدة (تقليل تكاليف الإقراض) وتقليص حجم أو نسب الاحتياطيات الإلزامية المودعة لديها بهدف رفع مستوى السيولة المالية لدى البنوك التجارية. � فمن خلال هاتين السياستين المالية والنقدية نستطيع تحسين نشاط الإقراض وزيادة المعروض النقدي في الأسواق لإتاحة السيولة ليس فقط للشركات كي تتمكن من تمويل احتياجاتها الاستثمارية أو التوسع في مشاريعها أو الاستمرار في ممارسة أعمالها بل أيضا لزيادة قدرة المستهلكين على الشراء وبالتالي التخفيف من حدة عزوفهم عن شراء السلع واستخدام الخدمات وذلك أملا في تحريك مياه الطلب الراكدة وزيادة معدلات الإنفاق الاستهلاكي والإنتاجي. � فبالإضافة إلى تعزيز نمو الإقراض (العقاري والاستثماري وغيرهما)، يا حبذا لو قامت البنوك بتمرير تخفيضات الفوائد على القروض الممنوحة مسبقا من خلال إعادة جدولة ديون الإفراد والشركات لتمكينهم من الوفاء بالتزاماتهم المالية متعثرة السداد على شكل أقساط ميسرة بفوائد اقل وعلى فترات زمنية أطول.

زيادة المخزون الإستراتيجي: لابد لنا أيضا من الاهتمام بزيادة مخزوننا الاستراتيجي من المشتقات النفطية والمواد الغذائية الأساسية (كالأرز والقمح والذرة والسكر والعدس والزيوت) والسلع الحياتية الضرورية (كالصابون والأدوية والمواد التموينية والمحروقات والغاز)  ففي مثل هذه الأوقات البائسة والأزمنة الصعبة الحرجة التي أصبح معها التنبؤ بما سيحدث في العالم ولو بعد دقائق معدودة أمرا غاية في الصعوبة من شدة التقلبات والمخاطر المالية وحدة الاضطرابات السياسية وتسارع التوترات الاجتماعية هنا وهناك.  

إجراء تدابير تقشفية: لا ضير علينا لو قمنا باعتماد حزمة من الإجراءات التقشفية الوقائية والأخذ بسياسة الترشيد وشد الحزام. فالاقتصاد مثلاً في الاستهلاك والإنفاق والتقشف الغذائي وادخار بعض المال للضرورات القصوى وحالات الطوارئ وإعادة توزيع مواردنا توزيعا رشيدا بالشكل السليم الذي يؤمن لنا قوت الغد ما هي إلا سلوكيات محمودة سوف تجلب منافع عديدة . هذا ما نأمل إن يتحقق وان يخفف الله عز وجل تأثيرات هذه الأزمة على اقتصادياتنا وشعوبنا انه ولى ذلك والقادر عليه .