الاقتصاد الأسْوَد

17/08/2009 7
ماجد الدعجاني

ناولتني زوجتي ورقةً فيها رقم هاتف محمول، وطلبت مني الاتصال بصاحب الرقم ووصف موقع بيتنا له. فسألتها: من يكون الرجل؟ فردّت بأنه زوج سيدة تصنع بعض المعجّنات وتبيعها للنساء. فسألتها مرّةً أخرى: كيف تعرّفت عليها؟ فقالت لي: "عن طريق صديقاتي". ابتسمْتُ وقلتُ: هذا هو الاقتصاد الأسود بعينه.

ظهر على وجه زوجتي تعبير يفيد بعدم فهم ماقلته، فضحكتُ وشرحت لها أن الاقتصاد الأسود Black Economy  هو مصطلح اقتصادي يعني الأنشطة الاقتصادية غير الخاضعة لرقابة الدولة.

فمثلاً في أميركا، لو كنتَ تهوى التصوير، وقمت بتصوير صور رائعة وطبعتها بأحجام مختلفة، فإن القانون لايمنعك من تعليقها في بيتك أو إهداءها لأصدقائك أو لمقرّ عملك أو لأي جهة، طالما لم تحصل على مقابل مالي لذلك. لكن، إن قمت ببيع تلك الصور عند باب بيتك أو في الحديقة العامة – كما رأيتها منذ عشر سنين في شارع Bayswater على جانب حديقة Hyde Park في لندن – إن فعلت ذلك في أميركا فيتوجّب عليك بموجب القانون أن تثبت هذه العملية في سجلّك الضريبي السنوي حتى تتمكّن مصلحة الضرائب IRS من تحصيل ضريبة على تلك المبيعات، حتى ولو كنت هاوياً للتصوير وتعمل في عمل مختلف تماماً وتدفع ضرائبك بانتظام. لو تم ضبطك واتهامك بالتهرّب الضريبي - حتى في مبالغ تافهة – فمن المحتمل الحكم عليك بالسجن والغرامة المضاعفة.

المشكلة هنا ليس من يصوّر صوراً ويبيعها، وقد فعلت ذلك بنفسي عندما كنت في الجامعة، فقد صوّرت عدداً من أجمل الخيول العربية في مسابقة وبعت عشر صور تقريباً منها لمركز الملك عبدالعزيز للخيل العربية بحوالي 500 ريال، وكان ذلك مبلغاً رائعاً لطالب جامعي مفلس مثلي في النصف الأول من التسعينات من القرن الميلادي الماضي.

المشكلة أن هناك عدداً كبيراً من الأنشطة التي تمارس، ليس في الظل، بل في رائعة النهار (وليس رابعة النهار)، ولايدفع القائمون عليها، إن هم دفعوا، إلا النزر اليسير من أرباحهم.

من هذه الأنشطة، نشاط البيع بالتجزئة في السلع الغذائية والسلع الاستهلاكية سريعة الدوران FMCGs مثل المنظّفات المنزلية والمناديل وغيرها. هذا النشاط يمارس في المملكة من قبل فئتين رئيستين، هما: كبرى محلات التجزئة، وهي في الغالب إما أن تكون شركةً مساهمةً مثل أسواق العثيم أو شركة تابعة لشركة مساهمة مثل بنده التي تتبع لمجموعة صافولا أو مشروع مشترك سعودي أجنبي مثل كارفو الفرنسية (كارفو وليس كارفور). هذه الفئة لامشكلة فيها، فقوائمها المالية تدقّق وتدفع زكاتها (وضرائب المستثمر الأجنبي فيها)، وبل وتوظّف العشرات من الشباب الوطني (وإن كانت نسبة الدوران (التسرّب) الوظيفي فيها عاليةً وهذه تستحق دراسة متعمّقة مستقلّة).

الفئة الثانية والأخطر باعتبارها أكبر مثال للاقتصاد الأسود في المملكة هي محلات التجزئة الصغيرة، أو مايعرف بـ"البقّالات" أو "التموينات" في نجد أو Super Markets أو Mini Markets.

هذه الفئة من المنشآت تتواجد بشكل ضخم جدّاً في كل شارع، وكل حي، بل وكل زاوية إن صحّ التعبير. هذه البقالات التي نطرقها صباح مساء لشراء الخبز واللبن والبيض والماء الزلال وكل مانسينا أن نشتريه في غزوتنا الأسبوعية على كبار محلات التجزئة، أقول هذه المنشآت ترتكب جريمتين اقتصاديتين إن صح التعبير.

الجريمة الأولى هي أنّها لاتدفع أي ضريبة (باعتبار أن المالك الصوري لها سعودي(ة))، وإن فعلت فالعادة أن يذهب ذلك المالك (أو وكيل سيدة الأعمال) إلى مصلحة الزكاة (بدل أن تحضر إليه وهوالمفترض) ويأخد ويعطي معهم في التشكّي ليدفع بضع مئات أو بضع آلاف من الريالات على أساس "التقدير الجزافي" وهو هواية موظفي المصلحة المفضّلة.

هذا المواطن، وبعد أن غزا مصلحة الزكاة والدخل في عقر دارها، يعود بشهادة الزكاة ليسلّمها للعقل المدبّر للبقالة (أنا البرادعي يالطفي)، ويعود لبيته جذلاً بحفنة من الريالات. في حين أن المالك الفعلي للبقالة (وهو في الغالب من جنسيات جنوب آسيا)، يستلقي على ظهره ضحكاً هو وبني عمومته الذين يعملون معه في التوصيل للمنازل، يستلقون في قصرهم (غرفتهم التي بجانب البقالة)، ويحلمون بعشرات الألوف، إن لم يكن مئات الألوف التي سيحوّلونها لبلدهم خلال السنة القادمة، حتى يحول حول الزكاة.

هذه الجريمة هي فقدان إيرادات الدولة لمبلغ، أتصورّ أنه لايقل عن عشرة بلايين ريال سنوياً. وبالرغم من أن إيرادات الدولة ولله الحمد ضخمة جداً من البند الرئيس وهو مبيعات النفط الخام، إلا أن هذه الضرائب المفقودة تعدّ تسرّباً لجزء مهم من الدخل. فلو فرضنا أن الدولة حصّلت تلك الإيرادات وخصّصتها كل سنة لمحافظة معيّنة لتطوير البنية التحتية لها مثل محافظة تمير في الرياض أو الدرب في جازان أو الليث في الغربية، لو فعلت الدولة ذلك لأصبحت تلك المحافظة أكثر تقدّماً تقنياً من (مقر شركة Google في كاليفورنيا، ولأصبح متوسط أعمار وصحة وتعليم ودخل سكان تلك المحافظة الفقيرة أفضل من أعمار اليابانيين وصحة السويديين وتعليم السنغافوريين ودخل القطريين!!!

تصوّر أيضاً لو أن الدولة حصّلت عشرة بلايين (مليارات) من تلك البقالات وأنشأت وقفاً لبناء المراكز الإسلامية المتكاملة حول العالم والتي تقدّم التعليم الشرعي والعلاج والمأوى والوظيفة والدعوة لملايين المحتاجين في أفريقيا وآسيا بالذات. إلن يكون باستطاعة مثل هذا الوقف بناء مالايقل عن 200 مركز سنويّاً بقيمة 500 مليون ريال (5% من قيمة الوقف) بدون أن ينقص من رأس المالي ريال واحد؟؟ هل أدركتم حجم النفع المفقود في مثل هذه الضرائب؟

إلا أن المصيبة لاتتوقف عند ذلك. فالجريمة الثانية التي ترتكبها هذه المنشآت الطفيلية هي أن نسبة السعودة فيها صفر في المئة. وبكل وقاحة إن صح التعبير، وأرجو أن تعذروني في ذلك.

أنا لستُ عنصريّاً بطبعي، وقد يعلّق شخص فيقول أن في أميريكا وكندا وبريطانيا وأوروبا كلها، الأغلبية الساحقة من البقالات يديرها الآسيويون، سواءً الهنود أو البنغلاديشيون أو الصينيون. أقول له نعم، صدقت! ولكن فاتك شيئان. الأول أنهم يحملون جنسيات تلك البلاد التي يعملون فيها، فهم مواطنون لهم ما للمواطن الأبيض والأحمر من حقوق وعليهم ماعليهم من واجبات. الثاني أنهم يدفعون ضريبة دخل للمحل الذي يملكونه (بشكلٍ رسمي بدون كفيل صوري)، ويدفعون ضريبة دخل عن كل عامل فيه ويدفعون ضريبة مبيعات للولاية وللحكومة الفيدرالية تصل إلى 17.5% في بريطانيا. فهل نقوم بتجنيس ربع مليون عامل؟

إن وضع مثل هذه المنشآت الطفيلية والتي تغذّي الاقتصاد الأسود في المملكة حتى في وضح النهار لهو وضع مأساوي، وبما أنّني عرضت المشكلة، فعلى الأقل يتوجّب عليّ عرض اقتراحاتٍ لحلّها، فأقول مستعيناً بالله:

أولاً: بما أنه تم تخفيض رأسمال الشركة ذات المسؤولية المحدودة إلى مايتّفق عليه الشركاء – وقد رأيت شركاتٍ تنشأ برأسمال قدره عشرة آلاف ريال – فأرى أن يتم إلزام جميع تلك المنشآت باتخاذ صورة شركة To be incorporated، ويسمح "استثناءً" للعاملين في تلك المنشآت بتملّك حتى 90% منها. وكونها شركة فهي بالتالي ملزمة بتقديم قوائم مالية مراجعة سنوياً لمصلحة الزكاة والدخل. والقوائم سيتم تدقيقها من مدقّق قانوني معتمد، سيقوم بإجراء الفحص اللازم لتأكيد صحة تلك القوائم.

ثانياً: إلزام جميع تلك المنشآت التجارية باستخدام أنظمة إدارة المخزون الآلية. أي أن يتم وضع رمز للسلعة Bar Code لكل بند يدخل في مخزون المنشأة، ويتم تسجيل كل عملية بيع آلياً (كما في المحلات الكبرى)، ولايكون لصاحب البقالة صلاحيات لتغيير الكثير من البيانات في النظام بدون الرجوع للمحاسب القانوني.

ثالثاً: إلزام جميع تلك المنشآت بتوفير سكن لائق وتأمين طبّي لجميع منسوبيها.

رابعاً: يتم تحصيل الزكاة (عن الشريك السعودي) والضريبة عن الشريك الأجنبي.

بالطبع لن أطالب بتوظيف سعوديين في تلك المنشآت الصغيرة لعدة أسباب منها:

1. الأغلبية الساحقة من السعوديين العاطلين عن العمل لديهم مؤهلات من الثانوي فما فوق، وفي توظيفهم في تلك البقالات تدمير لمستقبلهم.

2. لايوجد حد أدنى للأجور في المملكة، ومن وجهة نظري أن دخلاً سنوياً لايقل عن خمسين ألف ريال، أي مامتوسطه حوالى 4,200 ريال في الشهر هو المقبول لبدء حياة عملية.

3. بعد خصم المصاريف المذكورة في أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً أعلاه، فإن توظيف مواطن قد يؤدي إلى إفلاس تلك المنشأة، وبالتالي خسارة الدولة لدخل الضريبة المحصّلة، وإغلاق عشرات الآلاف منها مما ينتج عنه خسارة ملاّك المباني التي تم تأجيرها لهم وخسارة شركات الألبان والعصائر لعشرات الآلاف من المنافذ القريبة من المستهلك وغيرها، وهي خسائر لانريدها، لأنها ستؤدي بالضرورة إلى استغناء تلك الشركات عن مئات الموظفين من المواطنين، وخسارة الدولة لزكاة وضرائب تلك الشركات.

هذا ما أحببت المشاركة به، ويسعدني قراءة تعليقات القراء وانتقاداتهم.