قديماً قال أبو العلاء المعرّي: كلُّ من لاقيتُ يشكو دهرَهُ ...... ليتَ شِعري هذِهِ الدنيا لـِمَنْ
إن المطّلع على تطورات قطاع التعليم في العالم سيجد أن كثيراً من الدولِ غيرُ راضية عن أداء منظومة التعليم فيها، وتعاني من انخفاضِ أداء طلابها، حتى تلك التي نالت شهرة واسعة لنجاحها في تطوير منظومة التعليم، مثل فنلندا. وإن الدراسة المتأنية تُظهِر أن الانخفاض في الدول الصناعية أكبر منه في الدول النامية، مع أن الأخيرة بدأت من مستوى أقل بكثير من الدول الصناعية.
الشكلان التاليان هما من تقرير اختبارات PISA المنشور عام 2023م: اليمين منهما لدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD (37 دولة)، واليسار لمجموعة مختلفة من الدول المشاركة في الاختبارات (44 دولة)، ونُذكِّر أن سنّ الطلاب المشاركين في هذه الاختبارات خمسة عشر عاماً. الانخفاض في الأداء ظاهرٌ، حتى عندما نستثني نتائج اختبارات سنة 2022م التي عُقِدَتْ بعد جائحة كوفيد.


فنلندا والسويد يُشارُ لهما بالبنان لنجاحهما في تطوير التعليم تطويراً جيداً، ولكن نتائج اختبارات PISA لطلاب فنلندا تظهِرُ أنخفاضاً مشابهاً لمتوسط الأداء لباقي الدول. وتختلف نتائج السويد التي تُظهِر انخفاضاً متتالياً حتى عام 2012م، فارتفاعاً في الأداء يليه انخفاضٌ بعد جائحة كوفيد، كما هو واضح في الشكل التالي:
إن نتائج اختبارات PISA، وغيرها من الاختبارات الدولية المعيارية، لا تصلح لأن تُبنى عليها قرارات وسياسات تعليمية، بل ينبغي أن تكون إحدى المدخلات في عملية تطوير التعليم. ولتوضيح ذلك، ننظر إلى نتائج الصف الثامن للرياضيات والعلوم من اختبارات TIMSS لأستراليا، ونقارنها مع نتائج اختبارات PISA، لتقارب المرحلة العمرية للطلاب في هذين الاختبارين:
ثم نقارن نتائج طلاب الولايات المتحدةالأمريكية في الرياضيات من اختبارات TIMSS، الشكل الأيمن أدناه، مع اختبارات PISA للصف الثامن، الشكل الأيسر أدناه:
إن مقارنة نتائج اختبارات TIMSS وPISA ليس الهدف منها مقارنة المنهجيتين أو الأرقام، فكل منهجية تختلف طريقتها وآلية حسابها للأرقام عن الأخرى، ولكن الهدف هو مقارنة اتجاه ونسبة التغيّر في منحنى القياس. يظهر جلياً التضارب في النتائج التي نحصل عليها من هذه الاختبارات، فمثلا: المعلومة الرئيسة التي نستنتجها من اختبار PISA لكل من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية هي الانخفاض التدريجي لأداء الطلاب من أعمار خمسة عشر عاماً، ولكن المعلومة الرئيسة لنتائج اختبارات TIMSS لكلا البلدين لا تؤيد الاستنتاج من اختبارات PISA. فكيف نستطيع تشخيص واقع التعليم بناء على هذه النتائج؟
إن 50% تقريباً من الدول متوسطة الدخل و70% تقريباً من الدول منخفضة الدخل، بحسب تقريرٍ للبنك الدولي، ترى أن منظومة التعليم لديها لا تحقق أهدافها التنموية، ونجد أن عدداً من الدول الصناعية الرئيسة ترى حاجة ماسّة لتطوير التعليم فيها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا.
ولعل أشهر مثالٍ على التصريح بضرورة تطوير التعليم تقرير أمة في خطر: ضرورة إصلاح التعليم الذي أصدرته اللجنة الوطنية للتميّز في التعليم عام 1983م في عهد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان، لتدارك ما اعتقده مسؤولو قطاع التعليم أن "النظام التعليمي في الولايات المتحدة قد فشل في تلبية الحاجة الوطنية للقوة العاملة التنافسية." والأبحاث المنشورة حول تطوير التعليم تشير إلى مبادرات وطنية أطلقتها عددٌ كبير من الدول، مثل: ألمانيا والمملكة المتحدة، لتطوير مناحٍ محددة من المنظومة التعليمية.
إلامَ نخلص مما استعرضناه في هذه المقالة؟، واضحٌ أن الاعتماد على نتائج الاختبارات العالمية لا يكفي لتشخيص وضع منظومة التعليم الوطنية لأي دولة من الدول. نخلُصُ أيضاً إلى أن كلَ الدول حريصةٌ على تطوير التعليم فيها، لسبب واضح – فيما نحسب – وهو أن أي دولة تركنُ للدَعَةِ ولا تعمل جادة على مواصلة تطوير منظومة التعليم، سيتأخرُ ركبها عن نظرائها في الابتكار والصناعة وريادة الأعمال، والإنتاجية والتنافسية.
كما نجد واضحاً أننا لسنا وحدنا من يواجه تحديات في تطوير منظومة التعليم، وقد جرّبنا أموراً كثيرة لتطوير التعليم، بعضها نجح في الحفاظ على مستوى أداء الطلاب، وبعضها لم يكن له تأثير إيجابي واضح. ونعتقد أن هذه المرحلة تتطلب تكريس جهد وطني لتحديد أهم التحديات التي تواجه تطوير قطاع التعليم، ثم العمل على حلها.
كيف نعرّف هذه التحديات، ومن الذي سيعرفها، وما آلية ترتيب أولوياتها؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة في المقالة التالية بإذن الله.
خاص_الفابيتا

