أوروبا أمام مفترق طرق تاريخي.. فهل يصمد اليورو أمام رياح المتغيرات الدولية؟

01/07/2025 1
محمود جمال سعيد

في مشهد عالمي يموج بالاضطرابات، لم يعد مصير العملة الأوروبية الموحدة شأناً داخليًا يخص صانعي القرار في بروكسل وفرانكفورت، بل تحول إلى معركة مفتوحة على مستقبل القارة العجوز بأكملها. فبين تباطؤ اقتصادي وتضخم متذبذب، وصراعات جيوسياسية لا تهدأ، يقف اليورو اليوم في عين العاصفة، تتقاذفه رياح المتغيرات دون هوادة، وفي هذا الإطار، تتعاظم التساؤلات: هل لا يزال لدى أوروبا ما يكفي من الإرادة السياسية والمرونة الاقتصادية لإنقاذ مشروعها النقدي الموحد؟ أم أن القارة ماضية في طريق التراجع أمام صعود قوى دولية منافسة؟

اقتصاد مترنح

أحدث تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الصادرة في يونيو 2025 خفضت مجددًا توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو إلى 1.0% فقط للعام الجاري، مقابل 1.3% في ديسمبر الماضي، مشيرة إلى أن ضعف الاستثمار وتباطؤ التجارة العالمية يزيدان من هشاشة المشهد الاقتصادي الأوروبي.

من جانبه، حذر صندوق النقد الدولي من احتمال انزلاق منطقة اليورو إلى ركود تقني في النصف الثاني من 2025، في ظل تراجع الصادرات وتصاعد التوترات الجيوسياسية، لا سيما مع استمرار آثار الحرب في أوكرانيا والمخاطر المحيطة بإمدادات الطاقة العالمية، رغم تسجيل معدل التضخم في منطقة اليورو انخفاضًا إلى 1.9% في مايو 2025 – وهو أدنى مستوى له منذ عامين – فإن هذا التراجع لم يكن كافيًا لإزالة القلق من أسواق المال، خاصة في ظل استمرار تضخم الخدمات فوق 3%، وتفاوتات ملحوظة بين دول المنطقة.

ورغم تباطؤ التضخم، فإن البنك المركزي الأوروبي يواصل الحذر. ففي تصريحات لرئيسته كريستين لاغارد، شددت على أن أي خطوات إضافية لتيسير السياسة النقدية ستكون مشروطة بثبات استقرار الأسعار وتحسن توقعات الطاقة.

طريق نزولي

أشارت نتائج استطلاع حديث أجرته وكالة رويترز إلى أن البنك المركزي الأوروبي يستعد لتنفيذ خفض إضافي في سعر الفائدة بواقع 25 نقطة أساس في سبتمبر 2025، ليصل بذلك المعدل المرجعي إلى 2.0%.

ويرى المحللون أن هذا المسار التيسيري قد يدعم التعافي، لكنه يحمل في طياته مخاطر أخرى، أبرزها ارتفاع سعر صرف اليورو الذي قد يُضعف تنافسية الصادرات الأوروبية، خاصة مع تباطؤ الاقتصاد الصيني والأمريكي في آن واحد.

إرث قديم

لم تفلح الهدنة المؤقتة في الأسواق في إزالة الغيوم المحيطة بأزمة الديون السيادية في أوروبا. فقد تجاوزت مديونية دول مثل إيطاليا واليونان 140% من ناتجها المحلي الإجمالي، ما يحد بشدة من قدرة هذه الحكومات على إطلاق حزم تحفيزية جديدة أو تحمل صدمات اقتصادية طارئة.

وتبرز المخاوف من ارتفاع تكاليف إعادة التمويل في ظل تقلبات العوائد على السندات الأوروبية، مما قد يعيد فتح ملفات أزمة منطقة اليورو التي عاشها العالم قبل أكثر من عقد.

بين القوة والضعف

في الوقت الذي يحظى فيه اليورو بدفعة مؤقتة من تراجع الدولار الأمريكي، إذ سجل مستويات قريبة من 1.165 دولار في أواخر يونيو – وهي الأعلى منذ ثلاث سنوات – فإن المحللين يحذرون من أن هذا الصعود لا يعكس قوة اقتصادية حقيقية.

وبرأي فأن ارتفاع العملة الأوروبية مرده إلى ضعف نظيرتها الأمريكية، أكثر منه إلى صلابة الأساسيات الأوروبية، في وقت تزداد فيه التحديات الهيكلية المتعلقة بسوق العمل، وسياسات الهجرة، وضعف التكامل المالي داخل الاتحاد.

توترات الجغرافيا

لا تزال أوروبا في مرمى النيران الجيوسياسية. فالحرب المستمرة في أوكرانيا تستنزف الميزانيات وتُبقي أسعار الطاقة عند مستويات مرتفعة، فيما تهدد التوترات المتصاعدة في الشرق الأوسط – رغم الهدنة بين إسرائيل وإيران – بتعطيل إمدادات النفط والغاز في أي لحظة.

وتشير توقعات وكالة الطاقة الدولية إلى استمرار ارتفاع أسعار الغاز حتى 2026، مما يضغط على الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، ويهدد تنافسية الشركات الأوروبية عالميًا.

مشهد مقلق

في موازاة هذه التحديات، تعاني أوروبا من أزمة ديموغرافية عميقة. فشيخوخة السكان وتقلص القوة العاملة يفرضان تحديات ضخمة على أنظمة الرعاية الصحية والتقاعد. وتشير بيانات المفوضية الأوروبية إلى أن معدل البطالة استقر عند 6.4% في مايو 2025، لكنه مرشح للارتفاع ما لم تُطلق إصلاحات عاجلة في سوق العمل وتشجيع الهجرة المنظمة.

رياح معاكسة

في ظل تصاعد الحمائية التجارية عالميًا، حذرت منظمة التعاون الاقتصادي من أن استمرار الحواجز التجارية قد يؤدي إلى انكماش في نمو التجارة العالمية بنسبة 0.3% خلال السنوات الثلاث المقبلة، الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على صادرات منطقة اليورو، لا سيما تجاه الأسواق الناشئة.

مفترق طرق

إن أزمة اليورو اليوم لا تتعلق بمجرّد عملة، بل تُعد اختبارًا وجوديًا لمشروع التكامل الأوروبي بأكمله. فإما أن يتمكن القادة الأوروبيون من إطلاق حزمة إصلاحات هيكلية جريئة تشمل السياسات المالية وسوق العمل والاتحاد المصرفي، أو أن تظل القارة عالقة في دوامة الأزمات وفقدان المكانة على الساحة الدولية.

وفي عالم لا يرحم المتأخرين، سيكون لمصير اليورو دلالة تتجاوز الاقتصاد، إلى حدود الجغرافيا السياسية والهوية الأوروبية ذاتها.

فرصة تاريخية

يجب على صانعي القرار الأوروبيين التعامل مع المرحلة الحالية باعتبارها فرصة تاريخية لإعادة رسم دور أوروبا في النظام الاقتصادي العالمي، لا سيما في ظل تراجع الثقة بالاقتصادات الكبرى. فالتكامل المالي، والتحول نحو الطاقة المتجددة، والتوسع في الهجرة الإنتاجية قد تشكل معًا المعادلة الذهبية لتعزيز صمود اليورو.

 

 

خاص_الفابيتا