أهم دروس الماضي التي ستبقى معنا للمستقبل "2"

28/01/2024 0
د. محمد آل عباس

استكمالا لما بدأته في الأسبوع الماضي من مناقشة تلك القضايا التي تحدد الملامح الاقتصادية التي تنتقل من الحاضر للمستقبل، حيث أشرت إلى الأعمال التي ستكون مهددة بالذكاء الاصطناعي، وإلى الدور الكبير للعملات المشفرة في المستقبل، بالتأكيد هناك رابط مهم بين الأمرين لم أشر إليه في المقال السابق، وهو حجم قوة العمل المطلوبة من البشر في المستقبل، وتحدثت عن تعاظم دور الذكاء الاصطناعي بشكل لم يسبق له مثيل، ولهذا فإن الحاجة تتزايد إلى التعامل مع هذه الآلات وفهم لغتها، لا من ينافسها في العمل، ومع تزايد دورها في المجتمع والأعمال ستظهر دعوات تتزايد بتقليص ساعات العمل في المكاتب، وهذا يتزايد بشكل استثنائي اليوم في العالم أجمع، هناك دعوات لا تكاد تتوقف حول حجم العمل المطلوب في المكاتب، بل هناك مناقشات جادة حول ضرورته من باب أولى، ولهذا بدأت الشركات تغازل موظفيها بالعمل عن بعد، لكن يجب الحذر من مفهوم العمل عن بعد، لأنه لا يعني العمل من المنزل، بل يعني العمل من أي مكان غير مكتب مغلق لمدة ثماني ساعات يوميا، لهذا فإن تأثير نمو هذه الظاهرة يعني تغيرات واسعة في مفهوم العقارات التجارية، وقد بدأت الأسواق العالمية تشتكي من تراجع الاهتمام بالأبراج التي توفر المكاتب التجارية، وهذا يعني تقلبات في هيكل السوق العقارية واتجاهات الاستثمار فيها، راجع صندوقك الاستثماري قبل اتخاذ قرارات مهمة.

وستتعاظم بشكل لم يسبق له مثيل في غضون ثلاثة أعوام تقريبا. إن الحد الفاصل بين بقاء مستويات التحول عند وضعها الحالي وبين الانفجار العالمي لمنظومة العمل الجديدة هو التحولات التشريعية في الدول، لكن الموجة هائلة جدا، ويجب الاستعداد لها بكل الوسائل، إذ ستتمكن أجهزة الذكاء الاصطناعي من توظيف البشر في مهمات بأشكال من عقود العمل الحر التي لم نشهدها من قبل، هناك الآلاف من العمال من بينهم من يعمل في التمريض والطب، يخرجون بشكل منظم من سوق العمل المعهودة التي تربطهم بعقود طويلة وأجور محددة سلفا تدفع نهاية كل شهر إلى مفهوم جديد من العمل الحر على نمط شركات التشغيل "أوبر"، فيها العمل محدد بمهام معينة ومهمة بسعر الساعة يتم دفعها مباشرة للموظف في نهاية المهمة، لقد بدأت مظاهر هذه النزعة في عجز مستشفيات في دول مختلفة من الحصول على ممرضات بعقد، بينما يمكن أن تجدهم فورا من خلال تطبيقات مثل منصة "كير ريف"، التي تشبه منصات عديدة مثلUber وLyft وTaskRabbit وUpwork ، فهذا النوع من عقود العمل يمنح العمال المرونة والاستقلالية والقدرة على اختيار الوقت والمدة التي يريدون العمل فيها، ومع قادم الأيام ستستجيب صناديق التقاعد لهذه الأنواع من العمل، لأنها هي التي بحاجة إلى اشتراكات العمال. هكذا ستتم إعادة صياغة الاقتصاد، فالعمال سيكونون أسياد الموقف القادم، لن يكون للتنفيذيين تلك السلطات المعهودة، لقد اكتشف العمال في العالم طريقة جديدة للاستفادة من قوة العمل بعيدا عن استغلال الشركات الرأسمالية التي تؤخر الرواتب حتى نهاية الشهر مستغلة فائض العمل اليومي وتأخر صرف الراتب من أجل تعظيم العوائد، الآن الأمور مختلفة، ستكون فوائض العمل للعمال، هذا سيغير سلوك التجارة، فالمقاهي التي تسمح للعمال بتنفيذ مهامها من هناك ستتزايد أشكالها، وأماكنها وستتصاعد الرحلات السياحية والمنتجعات الرخيصة، وستشهد أسواق الطيران ازدهارا عظيما ما لم تحدث كارثة صحية جديدة.

هذا هو أهم عناصر المستقبل، فالصحة العالمية تناشد كل شهر تقريبا بالاستعداد لكارثة كبرى جديدة، وهي لا تعرف ما هي، لكنها تقرأ مظاهرها. إن أكبر خطر صحي يواجه البشرية اليوم ولم تشهد له مثيلا منذ خلق آدم، هو الانتقال السريع للبشر بين قارات ودول العالم، لكن كان لدى البشر مناعة خاصة ضد نقل الأمراض الخطيرة من خلال الحجر الطبيعي للإنسان، حيث لا يمكنه التحرك لمسافات وهو مريض، أو يحمل فيروسات المرض، اليوم يمكن للإنسان أن يحمل الفيروس في الصين وتصيبه أعراض المرض الأولية في الولايات المتحدة قبل أن يجد له سريرا في مستشفى في أوروبا، لقد نقل المرض بسرعة رهيبة بين بلاد الدنيا لمجرد أنه مسموح له بالسفر السهل والسكن أينما يريد، لم تكن البشرية قادرة على ذلك قبل اليوم، ومع عجزنا التام عن السيطرة فإننا أمام خطر لا يمكن الجزم بشكله ولا نوعه، ولكنه سيكون خطيرا بما يكفي لقهر البشر، لذلك يجب أن تطور الدول والحكومات آليات إغلاق المنافذ البرية والبحرية بسرعة والاستجابة العاجلة لأي تهديد عالمي وأخذ الأمور بجد وعدم الانتظار حتى تصرح الصحة العالمية، فقد يكون الوقت قد نفد، لقد كانت التجربة السعودية في التعامل الجاد مع فيروس كورونا أفضل نموذج يمكن اتباعه في حال اندلعت حالة مماثلة، لذلك يجب علينا العمل بكثافة لدراسة تجربتنا من نواحيها كافة، وإدخال نماذج العمل الجديدة والعملات الرقمية والعمل عن بعد من أجل الانتصار في معركة المرض X المقبل، ولنتأمل كيف يمنحنا الله كل هذه الوسائل الآن، وفي هذا الزمان بالذات.

 

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية