المعركة مع التضخم .. لم تنته بعد

09/01/2024 2
عبد الحميد العمري

هل استعجلت وزيرة الخزانة الأمريكية بتصريحها الأخير بأن الاقتصاد الأمريكي حقق هبوطا سلسا طال انتظاره، وتأكيدها "ما نراه الآن أعتقد أنه يمكننا وصفه بأنه هبوط سلس، وآمل أن يستمر"، واعتقادها بأنه قد تم ترويض التضخم المرتفع دون الإضرار بشكل كبير بسوق العمل؟ وقد جاء تصريحها متزامنا مع إعلان استقرار معدل البطالة في الولايات المتحدة بنهاية 2023 للشهر الثاني تواليا عند 3.7 في المائة، الذي جاء أدنى من التوقعات (3.8 في المائة) للشهر الثاني تواليا أيضا، وتدريجيا ستنكشف دقة تصريحات وزيرة الخزانة بدءا من إعلان معدل التضخم لديسمبر 2023 الذي تشير التوقعات إلى ارتفاعه بصورة طفيفة إلى 3.2 في المائة، مقارنة بمستواه خلال نوفمبر البالغ 3.1 في المائة، بينما تشير التوقعات إلى تباطؤ التضخم الأساسي بنهاية ديسمبر 2023 إلى 3.8 في المائة (بلغ 4.0 في المائة بنهاية نوفمبر متوافقا مع التوقعات).

يأتي تصريح وزيرة الخزانة الأمريكية وسط أصوات واسعة بتوقع بدء الاحتياطي الفيدرالي خفض معدل الفائدة قبل نهاية الربع الأول من العام الجاري، إلا أن ما تجدر الإشارة إليه بخصوص وزيرة الخزانة، أن تصريحها جاء لإثبات صحة تصريحات سابقة تكررت طوال العامين الماضيين، التي استبعدت خلالها ركود الاقتصاد الأمريكي جراء الرفع المطرد لأسعار الفائدة، مكتفية بأن الاقتصاد في أسوأ الاحتمالات سيتخذ مسارا وصفته بالهبوط السلس، وفي خضم كل هذا شعرت بـ"النصر" مقابل اقتصاديين كثر توقعوا ركود الاقتصاد الأمريكي نتيجة السياسات المتشددة التي انتهجها الاحتياطي الفيدرالي، وأدعت أن أولئك الاقتصاديين يسحبون توقعاتهم المتشائمة خلال الفترة الراهنة، كتأكيد من وجهة نظرها على انتصارها عليهم، والطرف الأخير "الاحتياطي الفيدرالي" لطالما تجنبت وزيرة الخزانة التعليق على أي من قراراته وإجراءاته طوال الفترة الماضية، مكتفية بأنه تعامل مع السياسة النقدية بشكل جيد.

المعركة مع التضخم لم تنته بعد، تلك رؤية الاحتياطي الفيدرالي، وبناء عليها سيتم الاحتفاظ بالمستويات المرتفعة لأسعار الفائدة لفترة أطول خلال العام الجاري، بل إن البيان الأخير للجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة قد ترك الباب مفتوحا أمام رفع محتمل لأسعار الفائدة مرة أخرى! ولأن المعركة لم تنته فصولها الدراماتيكية بعد، وما يشهده الاقتصاد الأمريكي تحديدا، والاقتصاد العالمي بصورة أوسع وأكبر، من تقلبات في أغلب مؤشرات أداء الاقتصادات والأسواق، لا يتجاوز كونه مجرد انعكاس لأجزاء محدودة من الصراع الراهن بين البنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي والتضخم، وما سيترتب على ذلك الصراع المستمر من آثار واسعة على النمو الاقتصادي وأسواق العمل والأوضاع المالية عموما، وهو الجزء الأوسع الذي يراقبه الاقتصاديون داخل أمريكا وخارجها، وليس كما تتصوره وزيرة الخزانة الأمريكية الواقعة تحت تأثير البعد السياسي الداخلي، خاصة خلال العام الجاري الذي سيشهد قبل نهايته الانتخابات الرئاسية، وتحاول جاهدة أن تجير "مكاسب" لم تتحقق بعد لمصلحة الكتلة التي تمثلها، في الوقت ذاته الذي لم تتشكل الصورة النهائية لما يجري العمل عليه الآن، ودون إغفال العوامل الأخرى ذات الثقل والتأثير الكبير في اتجاهات الاقتصاد العالمي عموما، والاقتصاد الأمريكي خصوصا، الذي أصبح يقف على أكثر من 34 تريليون دولار كأعلى مستوى للدين الأمريكي في تاريخ الولايات المتحدة.

تاريخيا، لطالما وقع كثير من اللوم على الاقتصاديين ومديري المحافظ الاستثمارية، حينما تتساقط الاقتصادات والأسواق في أزمة كبرى، وكيف أنهم لم يتوقعوها ويتأهبوا لها! وحينما يدونون تنبؤاتهم غير المتفائلة، ويصدرون عديدا من التحذيرات المستقبلية، وكل ذلك بناء على المؤشرات المتوافرة في الوقت الراهن، في الأغلب ما يواجهون بكثير من الاتهامات بأن طروحاتهم قد بالغت في التشاؤم، وأنها في غير محلها، وما نشهده في الوقت الراهن من تبادل لتلك الاتهامات أو الاختلافات الحادة، بين الاقتصاديين من جهة، والقائمين على الأجهزة الرسمية في الولايات المتحدة من جهة أخرى، ليس إلا أحد تلك الشواهد القائمة على أرض الواقع، وبالطبع فإن حدود مثل هذا النوع من الصدام يتجاوز الولايات المتحدة إلى غيرها من بقاع المعمورة، وقس على ذلك الحال في شأن التوقعات المتفائلة، وإن كانت أخف حدة قياسا على إيجابياتها التي متى ما تحققت، رأيت المكاسب والأرباح قد ألهت الأغلبية من الأطراف.

ولأن المعركة لم تنته بعد، وكل فريق لا يزال يراهن على معطياته ومؤشراته، بأنها ستأتي بنتائج مخالفة لنتائج الفريق الآخر، فلا شك أن الغموض هو من سيظل مسيطرا على الموقف حتى تتضح الرؤية بشكل جلي، وحتى هذا الأمر قد لا يحدث بتلك الصورة المأمولة والواضحة للجميع، ومتى حدث ذلك في أي من العقود الزمنية السابقة، حتى ينتظر حدوثه في المستقبل المنظور منه أو البعيد؟ وتزداد صعوبة التوقعات بدرجة أكبر في ظل ارتفاع كعب "المفاجآت"، التي طالما قلبت المعطيات الراهنة مهما كان ثقلها 180 درجة، ومنها بالتأكيد ما يرتبط بالعوامل الجيوسياسية كما هو قائم الآن، ويزداد تأثيرها بالطبع كلما اتسعت دائرة تلك العوامل، وازدادت اضطراباتها وخرجت عن السيطرة، وكم من الشواهد في حياة البشرية طوال تاريخها الممتد ما يثبت كل هذه الحقائق، التي لم ولن يلغي تأثيرها أي تجاهل لها من أي طرف من الأطراف! وهو ما يقتضي وضعها في الحسبان كعامل عشوائي خارج التوقعات، وهو ما تعتمده الطروحات الاقتصادية على اختلاف مدارسها ونظرياتها، بل قد يصل إلى أن يلغي بقوة تأثيره ووزنه، أي عوامل أخرى رئيسة تم الاعتماد عليها في رسم أي سياسات أو توقعات اقتصادية تتعلق بالمستقبل المنظور.

 

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية