استشفاف الملامح المستقبلية للاقتصاد العالمي

28/08/2023 0
عبد الحميد العمري

قليل من يستشعر النتائج المحتملة لتضييق البنوك المركزية حول العالم الخناق تجاه تضخم الأسعار، سواء على مستوى انكماش الاقتصادات أو حتى دخولها ركودا، قد يتحول لاحقا إلى كساد يخيم بظلاله القاتمة على نشاطات الاقتصاد الكلي، وما سيترتب عليه من ارتفاع لمعدلات البطالة، ستقترن بارتفاع حالات التعثر عن سداد الديون سواء للأفراد أو للشركات، وإن كانت الأخيرة قد بدأت مؤشراتها في الصعود إلى السطح، وما شركات التطوير العقاري الصينية ببعيدة عن مرأى ومسمع الجميع خلال الفترة الراهنة، رغم ذلك فما ستحتمله المشاهد المرافقة لموجة الركود المحتملة مستقبلا أو الكساد، لا شك أنها ستنسي الجميع أي شكل من أشكال التعثر الراهنة سواء في الصين أو في غيرها من المناطق حول العالم.

استهل رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حديثه في ندوة جاكسون هول، التي عقدت أخيرا في مدينة كانساس سيتي: "إن استمرار التشديد النقدي أمر لا بد منه، حتى يتم التأكد من أن التضخم يتباطأ بشكل مستدام، مشيرا إلى أن هدف الوصول به إلى معدل 2 في المائة ما زال قائما ولم يتغير"، واستطرد في حديثه فيما يتعلق بالمؤشرات الاقتصادية الإيجابية التي أظهرت نشاط التوظيف والنمو الاقتصادي: "إن النمو الاقتصادي فوق المستوى المتوقع، يهدد خطة التشدد النقدي وهو ما لا يريده الاحتياطي الفيدرالي، وأن القراءات الأخيرة فيما يتعلق بالناتج المحلي والإنفاق الاستهلاكي كانت قوية". في ضوء هذه المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، أشار جيروم بأول، إلى أن الاحتياطي الفيدرالي قد يبقي أسعار الفائدة ثابتة في اجتماعه المقبل في سبتمبر، مؤكدا قوله: "بالنظر إلى ما وصلنا إليه، فإننا في الاجتماعات المقبلة سنكون في وضع يسمح لنا بالتروي، بينما نقوم بتقييم تطور مسار البيانات الواردة والتوقعات والمخاطر".

لا تعني المؤشرات الأمريكية الأخيرة التي ما زالت تكتسي رداء الإيجابية في أغلبها، على الرغم من مسيرة 20 شهرا متتاليا من رفع معدل الفائدة، أن ألسنة الركود الاقتصادي المتوقع على أعقاب ارتفاع الفائدة لم تصل إلى شواطئ الاقتصادات، لقد حدث ذلك فعلا كما أظهرته المؤشرات الاقتصادية الكلية الأخيرة من منطقة اليورو "20 اقتصادا"، جاء في مقدمتها الاقتصاد الألماني، الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي، الذي سجل انكماشا بنسبة 0.1 في المائة خلال الربع الأول من العام الجاري، سبقه انكماش بنسبة 0.4 في المائة خلال الربع الأخير من العام الماضي، ووفقا لاستطلاعات الأعمال الأخيرة في ألمانيا، فقد أظهرت أن قطاع الخدمات يلي التصنيع من حيث حالة ركود.

يتوقع صندوق النقد الدولي أن تزداد ضبابية الأوضاع الاقتصادية حول العالم، بناء على توقعاته بزيادة تباين إجراءات السياسة النقدية العالمية خلال المرحلة المقبلة، بعد فترة من اتساق البنوك المركزية الرئيسة حول العالم في تشديد سياساتهم النقدية "وصل إجمالي عدد قرارات أكبر 39 بنكا مركزيا حول العالم برفع معدل الفائدة خلال الـ20 شهرا الماضي، إلى 311 قرارا بالرفع"، قالت كريستالينا جورجييفا المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي، في ضوء تلك التوقعات: "إن الفترة المقبلة ستشهد اختلاف إجراءات السياسات النقدية إزاء خفض أسعار الفائدة ومحاربة التضخم، نتيجة تباين مؤشرات النمو الاقتصادي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، وأنه يتعين على صناع السياسات النقدية مراعاة خصوصية الأوضاع الاقتصادية في منهجيتهم لمجابهة التضخم، وكيفية ربط تلك الخصوصيات مع دورهم في دعم النمو الاقتصادي والتوظيف، وأن البيانات الاقتصادية لكل دولة هي التي ستحدد الإجراءات الواجب اتباعها".

إن تلك الرؤى المتباينة من قبل كبار صناع السياسات الاقتصادية في العالم، وإزاء ما يشهده الاقتصاد العالمي من تقلبات ومفارقات غير مسبوقة، تضيف بالتأكيد مزيدا من الضبابية وعدم اليقين لدى الأطراف كافة من مخططين اقتصاديين ومستثمرين وبنوك وكبرى الشركات، قد تلتقي في نهاية المطاف طرقهم المتباينة خلال المرحلة الراهنة ذات الملامح الرمادية على طاولة واحدة، عنوانها الرئيس جميع ما سبق أن حذرت منه البنوك المركزية الرئيسة، كان أسوأه أن يدخل الاقتصاد العالمي ركودا تضخميا، مدفوعا من تضخم أسعار الطاقة والغذاء بدرجة أكبر، واقتران ذلك بارتفاع معدلات البطالة والتعثر عن الوفاء بالقروض البنكية الطائلة "حكومات، شركات، أفراد"، وهي الأنماط الاقتصادية السلبية الأكثر تحديا على الإطلاق أمام البنوك المركزية في مختلف الاقتصادات.

كما تتضاعف تلك التحديات على الأطراف الأكثر ضعفا اقتصاديا، في المرحلة الراهنة التي تشهد تشكل منظومات اقتصادية تتجاوز الحدود "بريكس كمثال"، التي ستعزز من جانب قوة ونمو الاقتصادات المشكلة تلك المنظومات الصاعدة، من جانب آخر ستترك الاقتصادات خارجها في مقدمتها الاقتصادات السبع الكبرى تغوص أكثر في ورطاتها الاقتصادية والمالية، ويضاعف من حجم كل من الفرص بالنسبة للمنظومات الصاعدة، والتحديات الجسيمة للمنظومات الاقتصادية العتيقة، ما يشهده العالم اليوم من تصاعد حدة الصراعات الجيوسياسية والاقتصادية على حد سواء بين الشرق والغرب.

ختاما، يتلخص المشهد الاقتصادي العالمي اليوم، في رؤية ملامح فجر جديد لدى المنظومات الصاعدة، وفي الجانب الآخر من منظومة الاقتصادات المتقدمة رؤية شفق الغروب الذي يحمل خلفه ظلمة حالكة، مبعثها أزمات تراكمت أحمالها طوال العقود الأربعة الماضية، لا شك أن عبور كل طرف من الأطراف إلى ما بعد نهاية هذا المشهد العالمي العملاق، سيحمل على جنبات طريقه الشاق كثيرا من التحديات والنتائج غير المواتية في حينها، وفي نهاية الطريق سيكون البقاء للطرف الأقوى، كما كرسته الرأسمالية الغربية للعالم طوال قرن مضى، وهذا الطرف الأقوى كما يبدو حتى تاريخه من التطورات الراهنة خارج أروقة الغرب.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية