نبوءة شبينجلر عن موت الحضارة

04/07/2023 2
د. محمد آل عباس

أوسفالد شبينجلر، فيلسوف ألماني له كتابات مهمة حول التاريخ والحضارة، خاصة كتابه عن تدهور الحضارة الغربية، وفلسفة شبينجلر تدور حول فكرة راسخة بأننا لا يمكن إيقاف أو تجميد التاريخ في أي صورة كانت، التاريخ سيل متدفق من الوقائع، التي تشكل بعضها بعضا، وترسم الحاضر فقط. الماضي وحتى المستقبل عند شبينجلر لا معني لهما ولا قيمة ولا حياة ما لم يرسما لنا صورة الحاضر، فكلاهما يجب أن ينحل في الحاضر مشكلا كل قيمه وإبداعاته، والمعنى الخفي وراء ذلك أن ما نزعم به من علم يقوم على دراسة البيانات التاريخية وحركة الأشياء هو في الحقيقة تجميد لحركة التاريخ "وفي بيانات سوق الأسهم دلالات"، وبينما نظن أن ما حدث في الماضي سيتكرر حدوثة اليوم وفي المستقبل وفق قوانين لا تعرف الزوال هو شيء مرفوض عند هذا الفليسوف الألماني، ورغم ما في هذه النظرة من تطرف، لكن ما حدث في علم الفيزياء في تحوله الكبير من الحتمية الديناميكية نحو النسبية الموجية وميكانيكا الكم خير دليل على ضرورة احترام فلسفة شبينجلر مهما بدت متطرفة. ولقد أثبتت الأحداث التي مرت على الاقتصاد منذ الانهيار الكبير لأسواق المال في الثلث الأول من القرن الـ20 وفي وقت كانت تتحدث كل جامعات العالم عن حتمية ميكانيكية للأسواق وأن فشل السوق غير صحيح، كان شبينجلر يتحدث عن استحالة تجميد حركة التاريخ في قوانين من العلل التي تتكرر بشكل نمطي رتيب، ولهذا كان انتصار فلسفة "كينز" وتغير مجرى الأحداث الاقتصادية تبعا لها هو انتصار لفلسفة شبينجلر في المقام الأول، ورغم أن العلماء عادوا لما نهوا عنه من تجميد حركة البيانات التاريخية في شكل علة ومعلول واشتقاق قوانين ثابتة، إلا أن الانهيارات المتتالية في الأعوام الـ100 التي تلت تؤكد دوما صحة فلسفة شبينجلر في الاقتصاد وفي المحاسبة وفي كل العلوم الاجتماعية ولو بدت نصف صادقة في الفيزياء والمادة.

لكن شبينجلر لم يكن اقتصاديا ولا علاقة له بعلم المحاسبة، بل كتب أهم أطروحة له وهي انهيار الحضارة الغربية فهو يرى أن الحضارة الواحدة "أي حضارة" تمر بثلاث مراحل، وهي النشأة، ثم النضج، ثم الانحلال، قبل أن تموت بلا رجعة، فهو يرى التاريخ سلسلة من الوقائع، ولا يمكن تجميدها في قوانين ثابتة، وأن التاريخ وفقا لذلك يسير في اتجاه واحد ولا يعود إدراجه، وإذا كان هذا صحيحا فإن الحضارات التي تنشأ لا علاقة لها بما قبلها ولا ما بعدها، كل حضارة تنشأ لأسبابها الخاصة وتنضج وفقا للوقائع التي تمر بها وتنحل كذلك، لا علاقة لها بغيرها. فلا تنحل الحضارة الغربية اليوم قبل موتها لأن الحضارة في آسيا بدأت تنشأ، بل تنحل لظروفها الخاصة، وكل حضارة لها أسلوبها المتمايز عن غيرها، لها فنونها، وعمارتها، لها دينها وعلماؤها وسياستها، بل وصلت فلسفته شبينجلر إلى القول إن لكل حضارة شخصياتها البارزة التي لا تماثلها شخصية في حضارة أخرى. ويجب ألا يفهم من حديث شبينجلر أن الحضارة ترتبط بالشعوب، بمعنى أن الحضارة تقفز من شعب إلى آخر، بل هي تظهر وتضمحل في الشعوب نفسها مرات ومرات، وقد طور شبينجلر مفهوما مهما وهو التعاصر في الحضارات، فقد تبرز ظاهرة واحدة في حضارتين منفصلتين تاريخيا، فهما متعاصرتان رغم الفارق الزمني الكبير بينهما، فنشأة مدينة بغداد في الحضارة العربية كنشأة واشنطن في الحضارة الغربية، كلاهما ظواهر متعاصرة عند شبينجلر، وهذا معناه أننا نستطيع معرفة ما تؤول إليه أي حضارة إذا مرت بالأحداث نفسها التي مرت بها حضارة سابقة وكأنها في عصر واحد، والأمر الأكثر أهمية أننا سندرك تماما ماذا سيحل بأي حضارة بمجرد فهم الحوادث الكبرى التي هوت بالحضارات السابقة، وذلك بغض النظر عن طول عمر الحضارة أو قصرها.

بناء على هذا المنهج درس شبينجلر حالة الحضارة الغربية كما هي صورتها في عشرينيات القرن الماضي، وأثناء الحرب العالمية الأولى، ورأى بكل وضوح الملامح القريبة لانحلال الحضارة الغربية، وفي عشرينيات القرن الماضي رأي شبينجلر أن الحضارة الغربية التي نشأت مع الثورة الصناعية الأولى والأفكار الحماسية لكل الفلاسفة الغربيين، وبلغت أوج مجدها مع نهاية القرن الـ19، رآها وهي تصل إلى مرحلة قريبة من الانحلال. وإذا كنا اليوم نقف على بعد قرن كامل من الزمن الذي رأى فيه شبينجلر حالة الحضارة الغريبة وهي قريبة من الانحلال فإننا اليوم ـ وفقا لتصورات شبينجلر ـ نعيش تلك اللحظات التي نظر لها. لم تكن الدعوات لحرق القرآن الكريم وتسهيل كل الإمكانات لذلك بينما تتم محاربة الفضيلة بشتى أشكالها إلا مظاهر الانحلال الحقيقي الذي أصبح واقعا للحضارة الغربية التي أبدعت كل التكنولوجيا التي نحياها اليوم، فالحضارة الغربية اليوم تفقد كل قدرتها على الإبداع والالتزام الصارم بالقيم الحضارية التي نشأت عليها وتتجه بدلا من ذلك نحو ازدراء الآخرين، واحتقار الشعوب والأديان، مع نزعة نحو ترك القيم الأساسية للحضارة الغربية واستبدالها بقيم مجهولة لا أساس لها ولا سند، ولم يكن ازدراء القيم الإنسانية العظيمة وتجاهل القيم الدينية أن يصل لما وصل إليه في الحضارة الغربية اليوم إلا بسبب مظاهر الانحلال الحقيقي الذي أصاب الحضارة الغربية كما رسم شبينجلر مسيرتها.

 

 

نقلا عن الاقتصادية