تجارة براءات الاختراع

09/04/2023 1
د. فهد الحويماني

تساءل الكاتب في صحيفة "الاقتصادية" الزميل فهد عامر الأحمدي عن عدد الاختراعات السعودية التي تحولت إلى منتجات قابلة للتصدير، ولا سيما أن المملكة تأتي في المركز الأول عربيا من حيث عدد براءات الاختراع والمركز الـ25 عالميا. ثم أورد الكاتب عدة ملاحظات واقتراحات قيمة حول أهمية وجود جهة مسؤولة عن تحويل الاختراعات إلى منتجات اقتصادية قابلة للتطبيق والتصنيع والتصدير وكذلك التسويق.

أتفق مع أهمية رعاية المخترعين ودعمهم وتحفيز بيئة الابتكار والاختراع، فقط هنا أستعرض الجانب الآخر لبراءات الاختراع وكيف أنها ليست "اختراعا" بالمعنى الدارج، وكيف أن هناك سوقا كبيرة للمتاجرة ببراءات الاختراع، وهذه البراءات تدر مئات الملايين من الدولارات سنويا على الشركات المالكة والمنتفعة، وبالتالي يمكن أن يهون ذلك علينا بعض الشيء فلا نقسو بشدة على أنفسنا.

في مقال سابق تحدثت عن السبب الحقيقي في ارتفاع مستويات الإنفاق على البحث والتطوير في الغرب، وكيف أننا نلوم أنفسنا بشأن التباين الكبير بين ما نصرفه في المملكة وما يصرف في أمريكا، حيث أوضحت أن السبب الرئيس يعود إلى وجود فوائد ضريبية وبرامج تحفيزية كنقاط ائتمانية أو نقدية تستفيد منها الشركات التي تمارس أعمال بحث وتطوير، وكيف أن هناك ثغرات محاسبية تمكن الشركات من تسجيل مصروفات متنوعة على أنها بحث وتطوير.

أما فيما يخص براءات الاختراع، فقد اختلف مفهوم الاختراع عن السابق حيث أصبح الآن بالإمكان الحصول على براءات اختراع وفق تصنيفات متعددة، فيمكن الحصول على براءة اختراع لمنتج معين أو خدمة معينة، أو حتى لابتكار خطوات معدودة لتنفيذ عمل ما.

في التسعينيات سمح بمنح براءات اختراع لبرمجيات الكمبيوتر، فأصبح بالإمكان الحصول على براءات اختراع مستحقة، كتقنية بلوتوث أو التحقق من صلاحية الدخول عن طريق الوجه أو تلك التقنيات المتعلقة بضغط البيانات والتشفير، وفي الوقت نفسه أصبح بالإمكان الحصول على براءات اختراع تافهة وليست ذات أهمية، معظمها يتعلق بجزيئات منفردة من البرمجيات والخوارزميات، أو طريقة تسلسل تقديم خدمة ما، أو تشكيلة ألوان معينة، أو مجرد عرض خيارات لمتسوق إلكتروني، أو السماح له بتعديل عدد القطع أثناء التسوق.

هناك براءات اختراع ساذجة جدا، مثل ساعة يدوية رقمية تحسب الوقت المتبقي لعمر الشخص اعتمادا على بيانات أكتوارية ومعلومات عن صحة الشخص، وأخرى لمنبه وقت يقوم بإسقاط شيء ما على وجه النائم ليستيقظ من نومه، وبراءة اختراع أخرى منحت لمظلة شمسية صغيرة تستخدم على الشواطئ لحماية المشروب داخل القارورة من أشعة الشمس!

بحسب جمعية المحامين الأمريكية هناك 47 ألف محامي براءات اختراع وملكية فكرية، علما أنه تم رفع أكثر من 650 ألف طلب براءة اختراع لدى مكتب براءات الاختراع في أمريكا في 2021، وفي المقابل يراوح عدد قضايا براءات الاختراع التي ترفع كل عام بين خمسة آلاف وستة آلاف قضية، وتم منح أكثر من 4.7 مليار دولار تعويضات لقضايا التعديات على براءات الاختراع في 2020.

أكبر شركة مالكة لبراءات الاختراع لأعوام طويلة هي شركة البرمجيات والحاسبات الأمريكية "آي بي إم" التي كانت لديها 8500 براءة اختراع في 2021، ثم انخفض العدد بشكل كبير في 2022 ليصبح 4700، لتصبح بذلك "سامسونج" الكورية الأعلى بأكثر من ستة آلاف براءة اختراع. سبب التراجع في عدد البراءات من عام لآخر يعود لانتهاء مدة البراءة أو بيعها لأطراف أخرى، ولو قمنا بحساب عدد البراءات التي تم منحها لـ "آي بي إم" منذ إنشائها فالعدد ربما يتجاوز 300 ألف براءة اختراع.

سوق براءات الاختراع ضخمة جدا، وهناك مصالح كبيرة مرتبطة بالبراءات، بدءا من الإيرادات التي تتحصل عليها الجهات القائمة على منح البراءات، إلى الجهات التي تعين في عملية التقديم، إلى الجهات التي تقوم بالدفاع عن البراءات، وأخيرا والأهم من ذلك كله هناك الشركات القابضة المالكة للبراءات التي لا تمارس أي عمل آخر ولا تهتم بالاختراعات في حد ذاتها، بل جل عملها يتمثل في رفع القضايا ضد من يظن أنه متعد على البراءات المسجلة باسمهم، أو أسماء عملائهم.

الفكرة هنا أن الشركات القابضة تقوم بشراء براءات اختراع سارية المفعول أو منتهية بأسعار زهيدة، في الأغلب نتيجة إفلاس شركات لديها براءات اختراع، ومن ثم تقوم بالبحث عمن يظن أنهم متعدون على تلك البراءات. وبسبب مرونة القضاء في أمريكا، فيمكن لهذه الجهات تحقيق إيرادات عالية من أي جهة تحاول الاستفادة من فحوى براءة الاختراع بشكل أو آخر. كثير من المختصين في الأوساط التقنية يرون أن هذه الجهات تشكل خطرا كبيرا على شركات التقنية وتحد من التطور والإبداع، والسبب أن تخوف الشركات من الوقوع في متاهات قانونية يمنعهم من الاستفادة من التطورات القائمة في شتى المجالات.

نموذج عمل تلك الشركات القابضة ليس في شراء البراءات وترخيصها لمن يحتاج إليها برسوم معينة، كما قد يظن البعض، بل إنه في معظم الحالات لا فائدة من البراءات التي يملكونها، إنما الهدف تحقيق أموال من القضايا التي يكسبونها. وبحكم أن القضاء في أمريكا يختلف عنه في أوروبا ودول أخرى عديدة، فالخاسر في القضية لا يتحمل أي رسوم قضائية، لذا لا يوجد هناك رادع قوي ضد رفع القضايا الضعيفة.

عندما ننظر إلى النقص الكبير في عدد براءات الاختراع لشركة "آي بي إم" عام 2022، فالسبب عادة ليس نتيجة انتهاء مدة ما لديها من براءات، بل إن السبب أن الشركة لا تستطيع متابعة التعديات المحتملة على العدد المهول من البراءات التي في حوزتها، فتقوم ببيعها على تلك الشركات القابضة، الذين بدورهم يقومون بتقصي حالات التعدي ورفع القضايا وجني الأموال منها. ودور القضاء يقتصر على إثبات وجود التعدي من عدمه، وليس على جدوى البراءة ولا أهميتها.

تجني شركة "آي بي إم" سنويا نحو مليار دولار من براءات الاختراع، ليس من خلال استخراج منتجات من تلك البراءات، بل من رسوم رخص البراءات لمن يقوم بالفعل بشراء الرخص، أو من خلال الفوز بقضايا التعديات سواء تمت من خلال الشركة نفسها أو من خلال جيوش المحامين المختصين في قضايا البراءات. لا شك أننا بحاجة إلى مزيد من التطوير والرعاية لبيئة الاختراع في المملكة، وكذلك مزيد من الصرف على أعمال البحث والتطوير الفعلية، لكن علينا تحليل ما خلف الأرقام المعلنة لإدراك الصورة كاملة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية