سن التقاعد .. الخيارات والنتائج

08/03/2023 0
عبد الحميد العمري

يتجدد النقاش من فترة إلى أخرى حول رفع سن التقاعد، وفي دول أخرى تقدم إلى طرحه للتصويت في برلماناتها التشريعية، وبعضها وصلت تداعياته إلى الشارع، كالحالة الفرنسية الراهنة، وعلى اختلاف الأوضاع والأسباب الداعية إلى اتخاذ قرار رفع سن التقاعد من عدمه في مختلف الدول، سواء لدواعي تتعلق بكونه أحد خيارات تخفيف الضغوط المالية على صناديق التقاعد، التي تجد كياناتها ملزمة بدفع معاشات تقاعدية لأعداد متزايدة من المستفيدين عاما بعد عام، في الوقت ذاته الذي تكابد تدني التدفقات الداخلة عليها إما لتدني العوائد على استثماراتها وإما لتعرضها إلى خسائر، أو لتقلص معدلات التوظيف وتدني أجور العاملين "المشتركين" الجدد، فتلجأ إلى مثل هذا الخيار برفع سن التقاعد، لاستمرار التدفقات الداخلة من جانب، وتأجيل دفع معاشاتها التقاعدية لاحقا من جانب آخر. أو لدواعٍ أخرى تتعلق بديموغرافية السكان في بعض الدول الهرمة ذات الشيخوخة المرتفعة، التي يتجاوز فيها متوسط العمر السكاني 40 إلى 45 عاما، وتعاني قلة الشرائح السكانية الشابة، كاليابان وعديد من الدول الأوروبية، وقد تكون الأخيرة "الدول الأوروبية" خففت في الأجل المتوسط من آثار شيخوخة السكان بالاعتماد أكثر على المهاجرين إليها من الدول الفقيرة "آسيا وإفريقيا".

بالنسبة إلى الحالة محليا، وبالنظر إلى التوزيع السكاني حسب فئات الأعمار، يتمتع المجتمع السعودي بارتفاع نسب الفئة الشابة فيه، فوفقا للإحصاء السكاني 2021 تصل نسبة من بلغت أعمارهم 24 عاما فأدنى إلى 48.2 في المائة، وترتفع النسبة إلى 57.7 في المائة لمن بلغت أعمارهم 29 عاما فأدنى، وتصل إلى 74.1 في المائة لمن بلغت 39 عاما فأدنى، ما يؤكد حيوية وشبابية المجتمع السعودي، ويؤكد أيضا أن خيارات البحث عن زيادة فرص العمل أمام الموارد البشرية المواطنة الشابة، تعد الخيار الأهم والأكثر أولوية من خيار رفع سن التقاعد، الذي قد يناسب مجتمعات تبتعد كثيرا على مستوى توزيعها حسب الأعمار عن مجتمعنا الفتي.

كما يؤكد ارتفاع حجم فئة السكان بين 15 - 24 عاما إلى أكثر من 3.9 مليون نسمة، التي تشكل نحو 18.1 في المائة من إجمالي السكان السعوديين، وتشكل أيضا نحو 106.1 في المائة من إجمالي المشتغلين السعوديين في سوق العمل المحلية (3.7 مليون مشتغل)، وهي الشريحة من السكان التي يقف أغلبها على أبواب دخول سوق العمل، ما يدفع إلى الأهمية القصوى بالعمل المتكامل والمشترك بين جميع أجهزة القطاع العام ومنشآت القطاع الخاص، لأجل توفير مزيد من فرص العمل المجدية، والتركيز بدرجة أكبر على الفرص الوظيفية في مختلف منشآت القطاع الخاص، وهو الأمر الذي تحقق له درجة جيدة من الإنجاز خلال 2021 - 2022 بمعدل نمو إجمالي للتوظيف بلغ 24.2 في المائة، بصافي زيادة في أعداد العمالة المواطنة في القطاع الخاص للفترة تجاوز 422.7 ألف عامل وعاملة من السعوديين، وهي الوتيرة لنمو التوطين التي ينبغي المحافظة عليها والقفز بها إلى أعلى مما تحقق لها، بحمد الله، والتي قد تتأثر سلبيا لأي احتمالات برفع سن التقاعد.

أمر آخر، أظهر توزيع إجمالي المشتغلين السعوديين في سوق العمل المحلية "عام وخاص"، أن الشريحة العمرية من المشتغلين السعوديين من 50 إلى 59 عاما يبلغ عددهم نحو 411.8 ألف عامل (11.2 في المائة من إجمالي المشتغلين السعوديين)، وبلغ عددهم لغير السعوديين نحو 875.1 ألف عامل (12.0 في المائة من إجمالي المشتغلين غير السعوديين)، ليصل إجمالي أعداد الواقعين بين 50 و59 عاما إلى نحو 1.3 مليون عامل (11.7 في المائة من إجمالي المشتغلين)، وهي الشريحة الأكثر ارتباطا بقرار سن التقاعد، التي يعني تدرجها في التقاعد وخروجها من سوق العمل خلال الأعوام العشرة المقبلة، بافتراض ثبات حجم السوق وإمكانية توافر فرص عمل مقاربة لذلك العدد، وعلى أنه لن يكون كافيا بالتأكيد لامتصاص القادمين الجدد على السوق، إلا أنه يؤكد ويثبت أهمية التركيز بدرجة أكبر على حلول توفير فرص العمل الجديدة أمام الباحثين عنها من الموارد البشرية المواطنة، التي ستجاوز حجمها المأمول نحو ثلاثة أضعاف ذلك العدد خلال العقد الزمني المقبل، والإشارة هنا إلى أنه أحد أهم مستهدفات رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تحقيقها من خلال المبادرات والبرامج التنفيذية الراهنة، بمشيئة الله تعالى.

ختاما، على الرغم من تأكيد جميع المعطيات الراهنة والمحتملة مستقبلا، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية كافة، عدم جدوى رفع سن التقاعد بالنسبة إلى مجتمعنا الفتي، وقياسا على الأهمية القصوى لحلول ومبادرات التوطين والتوظيف، الهادفة إلى خفض معدل البطالة محليا، إلا أن ذلك لا يمنع من إبقاء "خيار" التعاقد بعد سن التقاعد مع ذوي الخبرات اللازمة، ولا تزال حاجة العمل إليهم قائمة، ضمن مسارات ضيقة ودون التأثير عكسيا في توفير فرص العمل اللازمة للشرائح الشابة، وهو الأمر الذي تحقق ومعمول به خلال الفترة الراهنة، ويمكن أيضا الاستمرار في الاعتماد عليه مستقبلا كخيار متاح ضمن نطاق تنظيمي محدد الضوابط.

 

نقلا عن الاقتصادية