ظباء الفلاة وظباء النفود بين المتنبي وخالد الفيصل

30/01/2022 0
عبدالله الجعيثن

• أَفدي ظِباءَ فَلاةٍ ما عَرَفْنَ بِها مَضْغَ الكلام ولا صبغَ الحواجيب

• ما هقيتْ أن البراقع يفتنَّني لين شفت ظبَا النفود مبرقعاتِ

للبادية سحرها الخاص، ولكن من بعيد، فهي بفضائها الرحب، وهوائها الطلق، وروائح نباتها من عرار وخزامى وأقحوان.. تبدو ساحرة في نزهة يوم أو أيام.. وفي الربيع.. أما الحياة الدائمة فيها فهي عذاب.. ولكن الشعراء والرومانسيين يتغنون بها، وإن كانوا في الواقع لا يستطيعون العيش فيها ولا أسبوعاً.. ما لم تكن مربعة، والظروف مهيأة..

وبنات البادية لهن أيضاً سحر.. سببه إثارة الجدة.. والغموض.. وما فيهن من عفاف.. أما وصفهن بالجمال أكثر من نساء المدن فمشكوك فيه..

فنساء البادية ظروفهن قاسية، والشمس الحارقة وحدها تجعل الجمال يذبل.. ولكن كثيراً من الشعراء في القديم والحديث تغزلوا فيهن وتغنوا بجمالهن.. وذلك مفهوم لدى شعراء البادية.. أما الحضر من الشعراء فحول غزلهم الجاد علامة استفهام..

وأمامي الآن قصيدتان في نساء البادية.. الأولى لأكبر شعراء العربية أبي الطيب المتنبي، والثانية لشاعر من أكبر الشعراء الشعبيين الأمير خالد الفيصل..

والقصيدتان من الناحية الفنية جميلتان.. والشاعر الموهوب يستطيع أن يصنع شعراً جميلاً ولو لم تضطرم عاطفته فعلاً بالشكل الذي بدا شعراً.. فالمتنبي يرى أن الحضرية «عنز» والبدوية «غزال» وهذا كلام في الهوى.. ويزعم أنه فعل كذا وكذا «كم مرة أزورهم..» وهذا ادعاء..

وخالد الفيصل يصف العيون التي رآها وحدها من خلف البراقع بأنها «فاتنات ناعساتٍ ساحرات» وقد طرحنه صريح هوى «في هواهن يا سعد كيف اطرحني» .. ولنعرض القصيدتين ونناقش أكثر..

(المتنبي)

مَنِ الجآذر في زيَّ الأعاريبِ

حُمْرُ الحلي والمطايا والجلابيبِ؟

إن كنت تسأل شكاًّ في معارفها

فمن بلاك بتسهيد وتعذيب؟

سوائر ربما سارت هوادجها

منيعةً بين مطعونٍ ومضروبِ

وربما وخدت أيدي المطيِّ بها

على نجيعٍ من الفرسان مصبوبِ

يبدأ المتنبي فيسأل نفسه:

ما هذه الغزلان في شكل أعرابيات؟..

ويزيده دهشةً في السؤال أن كل ما حولهن أحمر: الحلي يبرق حمرة.. والمطايا حمر.. والمطايا الحمر هي أكرم المطايا عند العرب.. والجلابيب - وهي جمع جلباب وهو ما تضعه المرأة على صدرها فوق ثيابها - هي الأخرى حمراء..!

والمتنبي ليس في حاجة أحد.. فهو يجيب نفسه:

إن كنت تسأل شاكاً في معرفة من رأيت، فمن الذي بلاك بسهد وتعذيب؟ بسبب حبك لهن.. والإنسان لا يحب إلا من عرف.. ثم يصف الأعربيات بأنهن في غاية العز والمنعة، فالهوادج - وهي مراكب النساء على الإبل - لا يصل إليها أحد.. وإن سولت له نفسه فليجرب!.. فلن يجد غير الطعن بالرمح والضرب بالسيف قبل أن يصل!.. حتى إن مطاياهن ربما سارت بهن وهي تخوض في دم المعتدين!

يذكرني هذا ببيت المتنبي المشهور:

لا يسلم الشريف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم!

وإن كان في هذا البيت يريد (الشرف) بأوسع معانيه، وأولها وأقربها لوجدان المتنبي وروحه هو المجد..

ولا أعتقد أن أبا الطيب أحب في حياته امرأةً قط.. أو غير امرأة.. إنما أحب (المجد) فقط.. ومدح (سيف الدولة) صادقاً لأنه رآه ماجداً.. وهو كذلك.. أما مدحه لكافور فكان خابئاً ومضطراً ثم مسحه مسحاً ومحق كافور بهجاء عنيف ردده التاريخ..

٭٭٭

ثم يصف المتنبي حياة هؤلاء الأعراب، آباء واخوان تلك الغزلان المنيعات:

قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها

وخالفوها بتقويض وتطنيب

جيرانها وهم شر الجوار لها

وصحبها وهم شر الأصاحيب

فؤاد كل محب في بيوتهم

ومال كل أخيذ المال محروب

فالبدو وافقوا الوحوش في سكنى الصحراء قال (مراتعها) ولم يقل (مرابعها) لأن الأولى أدق في الدلالة على الصحراء القفر التي تسكنها الوحوش والأعراب، أما المرابع فهي توحي بالحضارة..

ولكنهم خالفوا الوحش في أنهم يغيرون مساكنهم (يقوضون الخيام من مكان وينصبونها ويضربون أطنابهم في مكان آخر حسب الماء والكلأ أما الوحش فمستقرة في مراتعها في الصحراء..

ويصف هؤلاء الأعراب بأنهم شر الجيران على تلك الوحوش لأنهم يقومون بقتلهم.. وفي البيت الأخير يذكر أن كل من في قلبه وعشق للجمال سوف يطير قلبه إلى بيوتهم لجمال نسائهم، وفي بيوتهم أيضاً مال كل من حاربوه!

قال البرقوقي: «أخيذ: أي مأخوذ، والمحروب: الذي ذهب كل ماله. يقول: إن فيهم الجمال والشجاعة، فنساؤهم ينهبن القلب، ورجالهم ينهبون الأموال».

وقال الواقدي: «يريد أنهم ملكوا قلوب الرجال بالسخاء وأموال الأعداء بالحرب» ورأي البرقوقي هو الصحيح بدليل قوله: «فؤاد كل محب..» فلفظة محب تتجه لجمال النساء في البيوت.. وقبل هذه الأبيات بيتان لا أكاد أشك أن المتنبي غير صادق فيهما، وإنما هو الشعر.. والادعاء.. وهما:

كم زورة لك في الأعراب خافية

أدهى وقد رقدوا من زورة الذئب

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

فقد ذكر مناعة الأعراب وشدة بأسهم وغيرتهم - وهو في هذا صادق - ثم زعم أنه يزورهم في الليل خفية.. زورة.. أدهى وقد رقدوا من الذئب!! هذا الكلام يناقض ما قبله ومابعده! ويتضح كذبه بقوله: كم زورة.. أي أنها كثيرة جداً! الله أكبر!.. الأعراب ليسوا بهذه الغفلة ولا المتنبي ذلك الرجل الذي همه ذلك الهم.. ولو كان ذلك الرجل لقتل شر قتلة في إحدى زوراته المتكررة (كم زورة...) أي بلا عدد!.. عد واغلط.. هذا الكلام لا يقال فيه «خذ وخل» فقط بل يقال: خل عنك هذا الكلام!

ولعل البيت الثاني هو ما أغرى المتنبي بتزييف البيت الأول.. فهو بيت لا أشك أنه أطرب صناعة الشعر عنده.. فالمتنبي لا يقول الغزل عن قلب وحب.. بل عن صناعة وتقليد.. المتنبي لم يحب قط.. وليس رجلاً غزلاً أبداً.. ولكن بيته الثاني أطرب البلاغيين كما أطربه فقالوا إنه جمع فيه خمس مطابقات:

الزيارة والانثناء.. والسواد والبياض..

والليل والصبح.. والشفاعة والإغراء..

ولي وبي..

وهذه هي الزيارة الحقيقية للمتنبي:

زيارة وجوه البلاغة.. أما مساكن الأعراب فلم يزرها بخفية قط لا زورة الذئب ولا غير الذئب.. ولكن الشعراء يقولون ما لا يفعلون..

ثم يقارن البدويات بالحضريات:

ما أوجه الحضر المستحسنات به

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

أين المعيز من الآرام ناظرة

وغير ناظرة في الحسن والطيب؟

فالحضرية عنز!! والبدوية غزال!! وهذا غير صحيح بهذا الاطلاق.. ولكنه الشعر إذا اندفع!.. ثم يسأل: أين نظرة العنز من نظرة الغزال؟!

وأين ريح العنز من ريح الغزال؟! لا شك أن نظرة الغزال أجمل من نظرة العنز! وأن ريحها أفضل حتى إن المسك يستخرج منها ولكن من سلم أصلاً أن الحضرية عنز والبدوية غزال على هذا الاطلاق؟ ألمجرد أن الغزال تعيش في البادية؟ العنز أيضاً تعيش في البادية..

وفي البيت الذي قبله يعيب على الحضرية (التزين، المكياج) وهو يعاب إذا بالغت فيه، الزينة المدروسة مطلوبة يا عمنا المتنبي وحتى البدوية تتزين.. وإذا كانت حسناء بدون زينة فهي ستكون أكثر حسناً مع الزينة المدروسة.. ولا يوجد امرأة لا تتزين قدر المتاح لا في المدن ولا في البوادي ولا في القرى.. كما أن الحسن الأصلي موجود لدى الجميع.. ولكن الشاعر إذا اندفع في موضوع ركز عليه واسبغ عليه كل الصفات الجميلة وسلب نقيضه..

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب!

هذا بيت سائر يقول البرقوقي في شرحه: «يريد بظباء الفلاة: نساء الأعاريب، ومضغ الكلام ترك ابانته، كأن المتكلم يمضغ شيئاً، يقول: هن فصيحات مبينات لا يمضغن كلامهن غنجاً كنساء الحضر ولا يصبغن حواجبهن طلباً للزينة مثلهن» قلت: الفصاحة جميلة في ذاتها ولكن الرجال لا يريدون النساء لفصاحتهن الغنج أجمل من الفصاحة، هنا، وقد خطب رجل قبيح فتاة جميلة وقال لها: إنني كاتب بارع في الكتابة، فنظرت إلى وجهه ورفضت قائلة «لا أريدك لديوان الكتابة»!

فلكل مقام.. مقال..

(خالد الفيصل)

ما هقيت أن البراقع يفتنني

لين شفت ظبا النفود مبرقعاتِ

الله أكبر يا عيون ناظرني

فاتناتٍ ناعساتٍ ساحراتِ

في هواهنْ يا سعد كيف طرحني

راح عمري في مودتهن فوات

كان مما صابني ما عالجني

الوكاد اني خطير بالممات

يا سعد خبر ظريف الطول عني

كان وده لي بعمر في الحياة

من نظرني بس اهوجس به واون

ما تركني هاجسي لو في مباتي

هذه القصيدة غناها محمد عبده بصوته الرائع.. والشعر الجميل يتوهج في الأغنية توهج البريق في الألماسة..

ويصبح الشعر حكاية أخرى.. ليس مجرد شعر.. بل لحن مبدع وصوت جميل وشعر جميل.. يصبح أغنية لها شخصية مستقلة..

وقد سئلت أم كلثوم عن الأهم في الأغنية: الصوت أم الشعر أم اللحن؟

قالت: الشعر لأنه ينفعل به الملحن والمغني.. وهي صادقة فالشعر هو روح الأغنية ووهج ألماسها.. وليت مطربو اليوم يدركون هذا..

ولكن الذي نريد قوله هو: هل يفتن الرجل بامرأة لمجرد أنه رأى عينيها من خلال البرقع كما يقول الأمير خالد الفيصل؟

لا أعتقد هذا وخاصة من شاعر متمكن في الغزل فالبرقع أكبر خداع على الاطلاق ويزين العيون الشينة ولنفرض أن العيون زينة و(فاتنات ناعسات ساحرات)!! إلى هذه الدرجة فهل المرأة مجرد (عينين) وهل الجمال الذي يسحر مجرد عينين لا يرى الإنسان من وجه المرأة غيرهما؟ هل الخيال يشتغل هنا ويشتعل؟

إن هناك مثلاً عربياً ينطبق على البراقع وهو (فوك ذكرني أهلي)!! وقصته أن أعرابياً رأى أعرابية مبرقعة فسحرته عيناها فخطبها ويبدو أنها وافقت فوراً «ما صدقت» ودعته وقدمت له القهوة ليتم ترتيب الزواج بسرعة وقردها الله فشالت البرقع فرأى فمها قبيحاً جداً فنهض مسرعاً (يريد أن ينفذ بجلده) فقالت: وين؟! فقال «فوك ذكرني أهلي!!» و«راح وهي الروحة»!

وذكر الأستاذ محمد الحمدان في كتابه (السامري والهجيني) ص43 أن شاعراً عارض قصيدة الأمير السابقة فقال:

ما هقيت ان البراقع يفضحني

لين شفت ضروس (ظلما) طافحاتِ!

جيت ابا اسلّم عليها صدمني

احمد الله يوم سلمتْ لها لهاتي!!

 

نقلا عن الرياض