نقود آخر زمن

18/09/2018 3
فهد عامر الأحمدي

يملك والدي وعمي وبعض الأقرباء وادياً جميلاً خارج المدينة.. لا يملكون صكوكاً عقارية أو عقوداً رسمية، ولكنهم يملكون اتفاقاً جماعياً وإجماعاً قبلياً على ملكية كل إنسان داخله، وحالة كهذه تشرح أهمية (التوافق الجماعي) في حفظ الحقوق وإعطاء الأشياء قيمتها المادية.. هذا ما كان يحدث في الماضي وما يزال يحصل في البادية والقرى النائية حيث لا يملك الأفراد صكوكاً ملكية، ولكنهم يملكون اتفاقاً جماعياً على ملكية حـق كل إنسان داخل المجموعة، وحتى بعـد تطور المجتمعات وظهور سجلات التوثيق الرسمي، بـقي التوافق والإشهار وسيلة مهمة لتأكيد حقوق الملكية (وهذا بالمناسبة المعنى الحقيقي لما يسمى بالشهر العقاري)، وحين تتأمل تاريخ النقود نفسها تكتشف أن «التوافق» داخل المجتمع و»الاتفاق» بين الناس هو ما كان يعطي الأشياء قيمتها - واحسب معي كم مرة سنكرر مشتقات هذه الكلمة، ففي الماضي البعيد كان الناس (يتفقون) على القيمة المرتفعة للذهب فكانوا يقبلون التعامل به.

ثم ظهرت سندات تصرف بمقابل ذهبي (اتفقنا بمرور الزمن) على التداول بها كعملات ورقية تملك قيمة الذهب نفسه، وفي العام 1971 أعلن الرئيس نيكسون أن أميركا لم تعد ملزمة بدفع مقابل ذهبي لأي دولارات تطبعها «بعد اليوم».. وهكذا أصبح الدولار (الذي يوجد منه أكثر من ترليون ونصف الترليون خارج أميركا) لم يعد يساوي أكثر من الورقة التي يطبع عليها.. ورغـم هذا ما تزال شعوب العالم تقبله وتتداول به لأنها (ما زالت تتفق) على أن له قيمة حقيقية ـــ في حين أن التكلفة الحقيقية لطبع المئة دولار لا تتجاوز 13 سنتاً، ورغـم استمرار العملات الورقية ظهرت البطاقات الائتمانية والتحويلات البنكية وتعرفنا على نوع جديد من النقود تدعى الأموال الرقمية أو الأرصدة الإلكترونية.. فحين تملك في البنك مليون ريال مثلاً فأنت في الحقيقة لا تملك نقوداً ملموسة، بــل مجرد أرقام تتفق أنت والبنك على قيمتها وملكيتها..

وحين تحول مئة ألف إلى شخص آخر، كل ما يفعله البنك هو تغيير الأرقام بحيث ينقص منك مئة ألف، ويضيف للشخص الآخر مئة ألف.. ولأن الجميع (يتفق على هذا الأسلوب) أصبحت الأرقام الإلكترونية نقوداً بحد ذاتها، ومن خلال (توافقنا) على تداول الأرصدة الإلكترونية ظهرت العملات الرقمية (مثل البتكوين).. فهي ليست عملة حقيقية ولا نقوداً ورقية بــل مجرد معادلات إلكترونية يتم تحديد قيمتها من خلال العرض والطلب واتفاق المتداولين على سعرها المناسب، وهكذا تكتشف في كل مرة أن (اتفاق) البشر على قيمة الأشياء هو ما يعطيها قيمتها الحقيقية، الخطوة المقبلة (في خلق وتوليد النقود والأملاك) ستكون تقنية البلوك شين - التي أرجو أن تبحث عنها لاحقاً في الإنترنت.

فبدل أن يحدد البنك رصيدك الإلكتروني في كمبيوتره الخاص؛ تقوم تقنية البلوك شين بخلق وتوثيق الأموال والأملاك من خلال تعميمها عبر الشبكة العالمية.. فكما يتفق أصحاب القرية أو الوادي على تحديد ملكياتهم، تقوم تقنية البلوك شين بتوثيقها إلكترونيا لدى الأقران المتماثلين في كل أنحاء العالم.. وبهذه الطريقة لن يتخلص البشر فقط من سيطرة البنوك ومؤسسات النقد، بــل وتتحول أموالنا وأملاكنا إلى مجرد بيانات إلكترونية يمكن نقلها وتحويلها وخلقها داخل آلاف الكمبيوترات حول العالم، البعض يدعي أنها مؤامرة عالمية هدفها تحويل أموال الناس إلى بيانات رقمية يمكن سحبها أو محوها لاحقاً بطريقة تقنية.. ولكن، المؤكد أن مفهوم المال والأملاك سيتغير خلال العشرين عاماً المقبلة وتصبح جميعها مجرد بيانات نخزنها في بنوك افتراضية (يتفق عليها العالم)..

 

نقلا عن الرياض