ما فائدة انخفاض العقار للاقتصاد والمجتمع؟

17/09/2018 4
عبد الحميد العمري

يتعارض بكل تأكيد انخفاض أسعار الأراضي والعقار مع مصالح تُجارِه، والانخفاض المقصود هنا هو الانخفاض الذي يعود بمستويات الأسعار المتضخمة إلى مستوياتها العادلة والمناسبة، ومن ثم نموها بشكل معقول ضمن النشاط الاقتصادي المحلي، دون الخروج بعيدا عن منظومة الاقتصاد الوطني، وأن يأتي ذلك النمو ناتجا عن زيادة في التطوير والبناء والتشييد، لا أن ينتج عن تراكم تشوهات هيكلية في القطاع؛ كارتفاع واتساع أشكال الاحتكار والاكتناز وزيادة المضاربات على الأراضي والعقارات، كما حدث خلال عقدين ماضيين. بناء عليه؛ الانخفاض المشار إليه أعلاه، لا يقصد به استدامة وتيرته إلى ما لا نهاية، بل هو محدد بوصول الأسعار المتضخمة بعد انخفاضها، وعودتها إلى مستوياتها العادلة والطبيعية، وأن تتنامى لاحقا ضمن خطوط متوازية مع بقية مؤشرات أداء الاقتصاد الوطني، فتكون معززة للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، ومعتمدة في نموها على أوضاع صحية للاقتصاد والمجتمع، لا أن تكون معتمدة على تجذر أشكال مرفوضة من الاحتكار والمضاربة، التي لا تخدم إلا القلة النادرة من ملاكها المحدودين، في الوقت ذاته الذي تراها تلحق فيه أكبر الأذى بالاقتصاد الوطني والمجتمع، وتتسبب في إنشاء أزمات اقتصادية ومالية وتنموية واجتماعية لا حدود لآثارها السلبية المدمرة.

بعدئذ؛ سيؤدي حدوث الانخفاض في أسعار الأراضي والعقار، وفقا لما تم إيضاحه أعلاه، ومن ثم ينعكس على تكلفة الإيجارات السكنية والتجارية بالانخفاض، إلى دعم الاستقرار الاقتصادي، وزيادة فرص نموه واستدامته، عبر انخفاض تكلفة تملك الأراضي والعقارات، وانخفاض تكلفة إيجاراتها على كاهل القطاع الإنتاجي من الاقتصاد، بما يسهم في تخفيف عبء التكاليف التشغيلية وزيادة هامش الربحية، ويمنحه فرصا أفضل للتوسع والتوظيف وتنويع قاعدة الإنتاج، الذي ستصب نتائجه الإيجابية في زيادة معدلات النمو الحقيقي للاقتصاد الوطني. كما سيؤدي انخفاض أسعار الأراضي والعقار وتكاليف الإيجار، إلى انخفاض تكلفة المعيشة على كاهل القطاع الاستهلاكي، الذي يشكل المجتمع الشريحة الأكبر منه، ويزيد من القوة الشرائية للأفراد، بما يعزز من الطلب الاستهلاكي المحلي، ويسهم في زيادة التدفقات على عموم منشآت القطاع الخاص، التي تضطلع بدورها في زيادة ضخ الاستثمارات المحلية، وزيادة تنوع قاعدة الإنتاج والتوظيف، ما يعزز في منظوره العام من الاستقرار الاقتصادي، ويسهم في ترسيخ دعائم النمو المستدام، ورفع مستوى الدخل، والدفع بتقدم عجلة التنمية المستدامة والشاملة، وفق عمل منظومة متكاملة ومتزنة للاقتصاد الوطني والمجتمع بشرائحه كافة، وبما يمنع من نشوء أية أزمات تنموية بالغة الضرر، كالتضخم والبطالة وانخفاض مستويات الدخل وارتفاع حجم المديونيات وتعثرها لاحقا، وغيرها من أشكال الأزمات الاقتصادية والمهددات لاستقرار أي بلد ومجتمع كان حول العالم.

معلوم أن الارتفاع المفرط لأسعار أي أصل أو سلعة أو خدمة، يعني في أحد أهم جوانبه؛ تقلص أعداد المشترين "المستفيدين" مع كل موجة صعود متسارعة، حتى تصل إلى نقطة قصوى من الارتفاع المبالغ فيه، الذي لا بد أن تنهار من عند قمته الشاهقة، وتعود بسرعة أكبر نحو الأسفل، وتسبب ذلك في إحداث اضطرابات هائلة ومدمرة على بقية القطاعات والنشاطات. وكذلك الحال بالنسبة للانخفاض المفرط في الأسعار، التي ستؤدي بكل تأكيد إلى انسحاب المستثمرين عن القطاع المتضرر، والوصول إلى نقطة متدنية قد ينتج عنها شح هائل في الأصل أو السلعة أو الخدمة المعنية بالأمر، وحدوث العكس بارتفاع الأسعار بصورة جنونية، ومن تكرار الصورة المشار إليها أعلاه! إنها حالات غير مستقرة على الإطلاق، وتعكس غيابا مخيفا لإدارة الأسواق والموارد والسياسات اللازمة والمنظمة، الجميع بكل تأكيد في غنى تام عن التورط في براثنها ووحلها المليء بكثير من المخاطر والمهددات الأخطر للاستقرار بأشكاله كافة. إن البقاء في مستويات سعرية شاهقة العلو بالنسبة لأسعار الأراضي والعقار وإيجاراتها، لا يخدم إلا الشريحة الضيقة من ملاك تلك الأصول، ولن يطول بهم الأمل حتى تقع فأس التضخم الفاحش للأسعار على رؤوس الجميع، وسيكونون هم أول من تقع الفأس القاضية على رؤوسهم، وكذلك الحال بالنسبة للأسعار القريبة من الصفر؛ لكن لآثارها ما لا تحمد عقباه، كونها ستدفع بسرعة مجنونة نحو تكرار مشهد الصعود الصاروخي للأسعار ومن ثم انهيارها.

إن من يغضب أو يزداد توتره الشديد من تجار الأراضي والعقار، تجاه وتيرة الانخفاض الراهنة للأسعار وعودتها إلى مستوياتها المعقولة والعادلة، يغفل كثيرا عن الفوائد الكبيرة جدا لما بعد انتهاء وتيرة الانخفاض، التي سيعقبها مسار متئد من النمو الرصين لاستثماراته ومدخراته التي وضعها في سوق العقار، ويغفل قبل ذلك عن المخاطرة العالية جدا لما ينتظره حال استمر الارتفاع السعري بوتيرته العالية، وأن ذلك الارتفاع مستند إلى تشوهات خطيرة لا إلى حالة صحية للاقتصاد والمجتمع، فالاحتكار والمضاربات والمزايدات المفتعلة على الأسعار لأجل الدفع بها نحو الأعلى على غير هدى، خاتمته الاصطدام بجدار عنيف الآثار عليه وعلى مقدرات الاقتصاد والمجتمع على حد سواء. ختاما؛ لا بد أن يتغير كثير من المحددات المشكلة للذهنية العقارية محليا، التي اعتمدت في السابق على اعتبار التشوهات "الاحتكار، المضاربة" مسلمة من المسلمات في السوق العقارية المحلية، وأن تدرك جيدا أن تلك التشوهات جار العمل خلال الفترة الراهنة على محاربتها والتخلص منها تماما، واستبدال تلك المحددات بأخرى أكثر ارتباطا بالاقتصاد الوطني والمجتمع والتنمية المستدامة والشاملة، وأن البقاء لمن كتب له البقاء منهم؛ لن يتحقق إلا لمن أدرك هذه الحقائق والمستجدات الآتية، فيما لن يجد لقدمه محلا يقف فيه من استمر في التعلق بتشوهات غابرة، بل سيذهب معها دون عودة! والله ولي التوفيق.

 

نقلا عن الاقتصادية