شفاء الاقتصاد والمجتمع من تضخم العقار

04/04/2018 15
عبد الحميد العمري

أثبتت تجربتنا المحلية خلال العقدين الماضيين على أقل تقدير، أنه لم يقف كخطر ومعوق تنموي أمام النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة، كالتضخم العقاري، وهو ما تم التطرق إلى أهم جوانبه وبعض سماته في المقال الأخير "عوائد زوال التضخم العقاري"، لما تسبب فيه من ارتفاع غير مبرر في تكاليف الإنتاج والتشغيل على كاهل كيانات القطاع الخاص، انتقلت آثاره السلبية إلى ارتفاع تكلفة المعيشة على أفراد المجتمع، عدا الارتفاع المطرد في تكلفة إيجارات مساكنهم، ما اضطر القطاعين، الحكومي والخاص، إلى رفع الأجور والرواتب المدفوعة إلى العاملين فيهما، ومن ثم أدى إلى مزيد من ارتفاع تضخم العقار مرة أخرى، لندور جميعا في حلقة مفرغة بالغة السوء، أضرت بجميع الأطراف، إلا المستفيدين محدودي العدد من ملاك الأراضي والعقارات.

وحينما اتخذت الدولة ـــ أيدها الله ــــ موقفها الحازم تجاه أحد أكبر مهددات الاستقرار الاقتصادي والمالي والاجتماعي والأمني، عزز من توجهاتها تلك أن جاءت العوامل الاقتصادية، وعلى رأسها انخفاض أسعار النفط، وإقرار الدولة سياسات الترشيد المالي، إضافة إلى إعلانها الحرب الضروس على الفساد بجميع أشكاله، على رأسه الضرب بيد من حديد على سارقي الأراضي الحكومية، واسترداد أكثر من 4.0 مليارات متر مربع خلال نصف العقد الماضي، وإقرارها نظام الرسوم على الأراضي البيضاء بعد انتظار عقدين من الزمن لهذا النظام، وغيرها من الإجراءات الصارمة، التي اتخذتها ولا يتسع المجال هنا لذكرها، يمكن القول عن ثقة كبيرة إن بلادنا واقتصادنا ومجتمعنا تمضي على الطريق الصحيح، الطريق الذي سيقود بتوفيق الله ـــ عز وجل ـــ إلى الشفاء التام من الأسقام التي تسبب فيها تضخم العقار، وما ذلك إلا للتعامل الصارم مع المسببات والتشوهات التي أدت إلى نشوء هذا السقم المتمثل في تضخم غير مبرر لأسعار مختلف الأصول العقارية، وهو ما يمكن وصفه بأنه الترجمة الفعلية للقاعدة الفقهية "ما بني على باطل فهو باطل".

يمكن للمتابع والقارئ اكتشاف معالم طريق شفاء الاقتصاد والمجتمع من هذا السقم، عبر مراقبته التطورات والعوامل الاقتصادية والمالية على سطح المتغيرات الراهنة، التي يتوقع -بمشيئة الله تعالى- استمرار تأثيراتها الضاغطة في أوضاع السوق العقارية طوال الفترة المقبلة، التي ستؤدي إلى معالجة جذور التشوهات العقارية، التي أدت إلى حدوث أزمة الإسكان والعقار. يمكن بلورتها وإيجازها بصورة مختصرة جدا في تسعة عوامل رئيسة، هي على النحو التالي:

العامل الأول: انخفاض أسعار النفط بنحو 58.3 في المائة خلال الفترة من منتصف 2014 حتى الوقت الراهن، واستمرار ذلك الانخفاض طوال الأعوام التالية حتى تاريخه، التي خفف من تأثيرها السلبي في الأداء الاقتصادي بشكل عام، إقرار الدولة لـ "رؤيتها الاستراتيجية 2030" وما تضمنته من الاعتماد الفعلي على برامج تنفيذية عديدة، تحقيقا لأهداف الرؤية، كان من ضمنها إخماد جذوة التضخم العقاري، بهدف دعم النشاط الاقتصادي، وتحسين الظروف المعيشية لأفراد المجتمع.

العامل الثاني: نتج عما تقدم ذكره في العامل الأول، انخفاض الإيرادات النفطية الحكومية كنتيجة مباشرة لانخفاض أسعار النفط، الذي تم التعامل معه بروية وفق برنامج التوازن المالي، وكان من نتائجه ترشيد الانفاقين الجاري والاستثماري، ما ألجم كثيرا من التدفقات النقدية العشوائية، وتم التعامل وفقه بشفافية عالية مع المشاريع الحكومية المتعثرة، التي فاقت فاتورتها المهدرة سقف 1.4 تريليون ريال، وما تبعه ذلك من سياسات إصلاح ومحاسبة شديدة الوقع على كل من تسبب فيها بصورة مباشرة وغير مباشرة.

العامل الثالث: تباطؤ معدل النمو السنوي للسيولة المحلية إلى أدنى مستوياتها خلال العقدين الماضيين "نمو سنوي بنسبة 2.0 في المائة لعرض النقود الواسع، ونمو سنوي بنسبة 0.3 في المائة لعرض النقود المتوسط حتى شباط (فبراير) 2018"، إضافة إلى تسجيل النمو السنوي للائتمان المصرفي الممنوح للقطاع الخاص خلال الفترة نفسها لمعدل نمو سلبي "- 0.7 في المائة شباط (فبراير) 2018"، ولعل الجميع يتذكر كيف أسهم النمو المفرط للسيولة المحلية أمام تقلص الفرص الاستثمارية المحلية، في تفجير أغلب الفقاعات السعرية في الأسواق المحلية "سوق الأسهم 2003-2006" "سوق العقار 2006-2014".

العامل الرابع: استمرار ارتفاع تكلفة تمويل رأس المال، الذي سيحد من نمو السيولة محليا، حيث وصل معدل الفائدة على الريـال "متوسط أسعار الفائدة بين المصارف لثلاثة أشهر" إلى 1.9 بنهاية شباط (فبراير) 2018، ويقدر أن يكون قد تجاوز سقف 2.0 في المائة بعد السياسات النقدية الأخيرة لمؤسسة النقد العربي السعودي.

العامل الخامس: "العامل الأهم والأثقل وزنا"، بدء تنفيذ أكبر عمليات إصلاح هيكلية للاقتصاد الوطني ضمن "رؤية المملكة 2030"، تستهدف تحويل الاقتصاد الوطني من الاعتماد المفرط على النفط كمورد وحيد للدخل، إلى اقتصاد قائم على قاعدة إنتاج متنوعة ومتعددة التحولات، التي ستقضي على أغلب التشوهات الهيكلية محليا، وعلى رأسها احتكار الأراضي والمضاربة عليها.

العامل السادس: تصحيح أوضاع العمالة الوافدة في سوق العمل، وما سيترتب عليه من انخفاض أعدادها ومرافقيها بنسب كبيرة خلال الفترة 2017-2020، كنتيجة مباشرة لتطبيق رسوم العمالة الوافدة ومرافقيهم، الذي سيسهم بدوره في إخلاء كثير من الوحدات السكنية، لتضاف إلى الوحدات السكنية الشاغرة الآن "1.1 مليون وحدة سكنية"، عدا الوحدات السكنية تحت التطوير والإنشاء في الوقت الراهن، ما سيدفع بمزيد من الضغوط على الأسعار المتضخمة لمختلف الأصول العقارية.

العامل السابع: تطبيق عديد من الرسوم والضرائب على ملكية الأصول والسلع المعمرة كرسوم الأراضي البيضاء، إضافة إلى بدء تطبيق الضريبة الانتقائية، التي تم تطبيقها مع منتصف العام الجاري، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة "5.0 في المائة"، التي بدأت مع مطلع العام الجاري، وستؤثر في القوة الشرائية للأفراد وتحد من تغذية أسباب ارتفاع تكلفة الأسعار والإيجارات في سوق العقار. ويضاف إلى هذا العامل من حيث التأثير:

العامل الثامن: ممثلا في رفع تكلفة استهلاك موارد الطاقة محليا، التي ستؤثر في مختلف أوجه النشاط الاقتصادي محليا، وفي السوق العقارية المحلية تحديدا.

أخيرا، العامل التاسع: اتساع تأثر السوق العقارية بارتفاع حجم عروض بيع الأراضي والوحدات السكنية "1.1 مليون وحدة سكنية شاغرة"، وإعلانات ضخ أكثر من 1.5 مليون وحدة سكنية أخرى خلال الأعوام القليلة المقبلة، يتوقع مع تزايد حجم معروض البيع من الأراضي والوحدات السكنية كما هو قائم الآن في السوق، واستمرار تأثير الأوضاع الاقتصادية والمالية غير المواتية وضغوطها على السوق العقارية المحلية، أن يستمر أيضا انخفاض مستويات الأسعار، وسيجد مع كل مستوى سعر متدن للأصول العقارية قوة شرائية محدودة تقبل بها، وكلما انخفضت الأسعار وجدت قبولا أكبر من المشترين حسب مستوى دخلهم وقدرتهم الائتمانية، وهو الأمر الذي لم يعكسه أداء السوق حتى تاريخه، وما يفسر إلى حد بعيد تفاقم حالة الركود وزيادة سيطرتها على أداء السوق العقارية المحلية. والله ولي التوفيق.

 

نقلا عن الاقتصادية