دروس في مكافحة الفساد

08/01/2018 0
سعيد بن زقر

أشارك القراء تجربتين عمليتين في مكافحة الفساد قلّ أو كثر.. التجربة الأولى رواها أحد مشاهير العالم والأخرى تجربتي الشخصية.. رواية الشخصية المشهورة تتصل بالفساد الذي جسدته سياسة الفصل العنصري بجنوب أفريقيا.. وهي تجربة كما يعلم الكثيرون عمّقها البيض وخاصة في تعاملاتهم مع الأغلبية الأفريقية.. كما رواها الرئيس نيلسون مانديلا والقس ديسموند توتو، فقد بلغت العنصرية في ممارسات البيض مبلغًا جعل الفساد أمرًا مقبولًا وصار له قانون مثلما للفصل العنصري أعراف وأنظمة. فقد كان يتم منع السود من ممارسة أعمال بعينها في بلادهم فلا يستنكرون وكانوا يمنعون دخول مناطق فيمتنعون وكانوا لا يتلقون العلم بجامعات معروفة بل منعوا الأكل في مطاعم مخصصة للبيض القادمين من أوروبا وفُهِّموا أنه لا يجوز لهم مشاركتهم فيها.. ومع أن هذا وضع شاذ ومنافٍ للفطرة إلا أنه تم قبوله وقبول فساده المستشري. صحيح رفض السود الوضع وحدث تطور لاحق قاد للقضاء على هذه الممارسات.. ومن آليات مكافحة ذلك الفساد تكليف القس ديسموند تيتو لرئاسة لجان المصالحة والمصارحة التي استهدفت نقل البيض والسود لمربع يتعايشون فيه مع استئصال الفساد وكبح البغضاء. وكان المبدأ أن البيض أبرياء حتى يثبت العكس ولكن عليهم مواجهة ضحاياهم لنفي أو إثبات التهمة، فإما أن يعفوا أو يقتصوا، وبهذه الآلية السلمية تجنب الطرفان حدوث حرب أهلية، وسفك دماء يقتص فيه كل من اعتقد أن أحدهم من الرؤوس التي قد أينعت وحان قطافها.. وهكذا حدث انتقال سلمي مدهش بكل المعايير وصارت تجربتهم نموذجًا للشعوب لتحتذى بها.. لاشك أن مانديلا كان رجلا قياديًا وكان حاضرًا في المشهد فرأى أن استئصال الفساد من جذوره وكذلك نظام الفصل العنصري لا يتم إلا برؤية سلمية وبتحفيز الجلادين للاعتراف بما اقترفت أيديهم وتشجيع الضحايا على التسامح

. وهذا أقرب لما تم في فتح مكة حين قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم للطرفين المظلومين والظالمين عبارة سارت بها الركبان (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

والشيء بالشيء يذكر فأثناء تكليفي بإدارة الشركة بالمنطقة الوسطى قبل عشرين عامًا اكتشفت تعدي أحد مديري الأقسام على حقوق أصحاب البقالات والمتاجر من البضاعة المجانية باستغلاله لعدم معرفتهم بذلك فأخذها وزور بالأوراق وباعها لصالحه.. كان هذا فسادًا تطلب تدخل على نهج (بلدوزري) فأوقفته مباشرة عن العمل ورفعت عليه وعلى مسؤولي القسم دعوى.. وكان اتهامي أنهم يعرفون ما حدث وتواطأوا سويًا كشركاء.. وكان قراري صحيحًا ظاهرياً ولكن هل كان يمكن أن تكون هناك آلية أخرى.. نعم كان يمكن تحفيز بعضهم للإدلاء باعترافات تبين الثغرات التي سمحت بهذا التسلل لأخذ حقوق أصحاب المصلحة.. ثم تعقدت القضية حين صارت عمالية تتطلب إثباتاً بحكم من المحكمة أو ستنقلب دعوى بالمطالبة بكامل الحقوق والأجور وبالبراءة من الاتهام.. وكلفني القرار (البلدوزري) وقتًا وجهدًا كان يمكن تداركه بأقل كلفة.. والدرس المستفاد منه وتجربة جنوب أفريقيا بأنني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلت القرار البلدوزري خيارًا أخيرًا لأنه كان يمكن الطلب تقديم الاستقالة دون اتهام وربطها بكشف من كان خلف الجرم لمعالجته.. والأرجح كان سيقبل لينجو بجلده مما سيوفر وقت أصحاب المصلحة والشركاء ووقت المحكمة ومكاتب العمل.. قال صلى الله عليه وسلم (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه). 

 
نقلا عن المدينة