الفساد لا يأتي على شيء إلا قضى عليه

06/11/2017 3
عبدالله الجعيثن

إن الفساد المالي والإداري.. إذا انتشر وفشا.. كارثة كبرى.

إنه يعصف بالضمائر والذمم والأخلاق.. ويعصف بالمُقَدَّرات وبحقوق الناس وقد ينسف المجتمعات من الأساس.

إن الفساد إذا فشا واستشرى يذكرنا - مع الفارق - بقول الله تبارك وتعالى: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذَرْ من شيء أتتْ عليه إلا جعلته كالرميم} سورة الذاريات الآية 41 - 42.

فالفساد هو ريح السم والسموم.. إذا توغَّل في القطاع العام والخاص وتغلغل في حياة الناس أفسد كل شيء صالح.. واجهض كل مشروع عظيم.. وأخَّر كل خطط الإصلاح.. ونشر الفقر والحقد والغبن والقهر بين الناس.

والفساد مرضٌ معدٍ وشديد العدوى وسريع الانتشار كالنار في الهشيم.. فإنه إذا فسدت تفاحةٌ واحدة أفسدت صندوق التفاح كله إذا لم تُعْزَل عنه، إذا لم تؤخذ فترمى في المزبلة.

الفساد مرضٌ خطير جداً، سريع العدوى، سريع الانتشار، خطير العواقب.

والحملة الشاملة لمكافحته ومعالجته ووضع التحصينات ضده والتلقيحات الواقية منه.. بإذن الله عز وجل.. من أوجب الواجبات.. فهو وباء لا يقل فتكاً عن وباء الطاعون.. وهو مرض قاتل كمرض الإيدز الذي يسلب المناعة من الإنسان.

فإن الفساد إذا لم يستأصل يسلب المناعة من المجتمعات.. فتصاب بالمرض والانحطاط لفقدان المناعة ضد الفساد.

٭ ٭ ٭

والفساد في أسهل وأوضح تعريف له - أعني الفساد الإداري والمالي - هو: (استغلال السلطة لتحقيق منفعة خاصة) وهذه السلطة قد تكون في القطاع العام، وقد تكون في القطاع الخاص وبالذات «الشركات المساهمة».

والمفارقة الموجهة أن مَنْ مُنح تلك السلطة، مُنَحها لكي يحقق المصلحة العامة، فإذا به يستغلها ضد المصلحة العامة، ويسخرها لمصالحه الخاصة على حساب المصلحة العامة وضدها.. وللفساد عدة وجوه قبيحة مخيفة ويتنكر بعدد من تلك الوجوه، وهو المنكر بعينه.. ومن وجوه الفساد المخيفة والكريهة (الاختلاس من المال العام) فالفاسد، المفسد، إذا تولى منصباً يُراد منه تحقيق المصلحة العامة، وحراسة المال العام، حرص على سرقة المال العام لا حراسته، بشرط أن يحرص على الحذر والتخفي والتستر بإكمال الإجراءات النظامية بحيث تبدو على ظاهرها سليمة تحقق المصلحة العامة، بينما هي في واقعها تحقق مصلحته الخاصة أولاً، وتتيح له الاختلاس المصبوغ بالنظام.

المفسد بدل أن يحرس المال العام.. يسرقه (حاميها حراميها).. والأنظمة في كل أنحاء العالم صامتة، وبالإمكان تطويعها وتمطيطها والتحايل عليها وإعطاؤها صفة النظام والتمام بالتؤاطؤ والرشوة وجعلها تبدو من الظاهر كاملة متكاملة وهي كأنها باب من خارجه الرحمة ومن داخله العذاب.

والأنظمة دائماً مثالية ولكنها صامتة لا تصرخ إذا تحايل عليها فاسد، الأنظمة دائماً مثالية ولكنها لا تحقق تلك المثالية إلا إذا طبقها أُناس مثاليون.. وبما أن الناس ليسوا كلهم.. ولا أكثرهم.. مثاليين.. وأنه لا يمكن التمييز بين المثالي.. وغير المثالي.. ولا يوجد طابع على وجه الفاسد.. يطبع عليه كلمة (فاسد).. فإنه لا بد من الرقابة الصارمة.. السابقة واللاحقة.. للتأكد من سلامة تطبيق الأنظمة.. وعدم تحقيق منافع خاصة.. رقابة صارمة.. سابقة ولاحقة.. وشفافية ظاهرة تضيق الخناق على الفساد والمفسدين.. وتحصرهم في أقل الحدود.. تعاونها في ذلك صحافة حرة تطارد الفساد.. والمفسدين.. وتفضحهم على الملأ بالوثائق والأدلة.. لا بد من هذا كله لمحاربة الفساد.. والمفسدين.. (ويا الله السلامة) فإن السلامة التامة من الفساد لن تتحقق في المجتمع البشري.. فقد وُجدَ الفساد والغلول والاختلاس في كل العصور والمجتمعات.. حتى في أفضل العصور عصر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعصور خلفائه الراشدين المهديين من بعده.. كان هناك بعض الفساد والقرآن ينزل.. ولولا أن الفساد يُمارس ما نزلت التشريعات.. والأحاديث.. وتحريم الفساد والاختلاس.. فإن الله عز وجل يقول: {وما كان لنبي أن يَغُلّ ومَنْ يَغلُلْ يأت بما غَلَّ يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظْلَمون} سورة آل عمران الآية 161.

والغلول هو السرقة - بخفية - من المال العام.

وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن رجل مات وهو مع المسلمين: «هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلّها» رواه البخاري.

فقد سرق هذا الرجل من المال العام عباءة فقط فاستوجب النار لأنه فاسد وإسلامه نفاق لو كان صادقاً ما غَلَّ وأفسد.

وقال: «من يكتم غالاًّ فإنه مثله» رواه أبو داود.

ويكتم: يتستر عليه ويستره ولا يبلغ عنه.

وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فلمَّا انتهت ولايته عاد فقال: هذا لكم - أي لبيت المال - وهذا أُهدي لي فقام الرسول خطيباً وقال ما معناه: «ما بال أحدكم يقول هذا لكم وهذا أُهدي لي؟ ألا قَعَدَ في بيت أمه فيرى أيُهْدَى له أم لا؟» وحوادث متابعة عمر بن الخطاب لولاته مشهورة وكان رضي الله عنه يصادر نصف أموال المختلسين منهم ويعيدها لبيت المال!.

الرشوة

والرشوة هي المفتاح الذي يفتح باب الفساد.

وهي - إذا فشت وانتشرت - تُعطِّل مصالح الناس، وتسلب حقوقهم، وتساعد على سرقة المال العام، وتحلل الحرام، وتحرم الحلال، وليس لشرور الرشوة حدٌّ تقفُ عنده.. فهي تنتشر كالنار.

والرشوة قد تُفسد الصالح، وتدفع الكاف عن الفساد إلى ممارسة الفساد على خوف وبضمير مجروح أول مرة، ثم تكون أسهل في الثانية والثالثة، ثم يزول الخوف ويموت الضمير ويصير ذلك الكافّ الذي لا يعرف الفساد يطلب الرشوة بطريقته الخاصة، ويشترط مقدارها، ويربط إنجاز العمل، أو دفع الحق، أو تعيين الموظف، أو قبول الطالب، ونحو هذا من الحقوق، بدفع الرشوة فتسوء الأمور وتُنتقص الحقوق ويُغْبَن الناس ويسود الظلم وتفسد الضمائر وتنخر الرشوة في بنيان المجتمع - إذا انتشرت وسادت - فتأتي عليه كأنها السوسة، التي تسقط المباني رغم أنها (محفورة) وكأنها السوس الذي يُسقط ويفسد صُلْبَ الأسنان وهو مستضعف.

وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش وهو الوسيط الساعي بين الراشي والمرتشي لإنجاز أمر بالرشوة.

ومجتمعنا كسائر المجتمعات النامية فيه فساد ورشوة واستغلال للسلطة، ولمكافحة هذا لا بد من تفعيل (المباحث الإدارية) فهي الآن تقوم بدور جيد في مكافحة الفساد، ولكن تفعيل ذلك الدور ودعمها بالكفاءات والصلاحيات أمرٌ ضروري مع تكاثر السكان وتعدد الجهات وتسارع التنمية لضخامة الإيرادات.

وكذلك ديوان المراقبة لا يزال في حاجة إلى تدعيمه بالكفاءات القادرة على محاصرة نار الفساد في اضيق نطاق.. هو الآن يقوم بدور كبير ولكن التحديات تستلزم المزيد من دعمه وتقوية أجهزة الرقابة فيه خاصة أن الميزانية تضاعفت تقريباً، وهي ميزانية خير وبركة إن شاء الله، ودقة المراقبة لمصروفاتها يجعل خيرها يعم وبركتها أكثر ويقمع المفسدين وإن قلوا، هذا إن كانوا قليلين.

المحسوبية

والمحسوبية نوع من الفساد الذي يُولد القهر الاجتماعي وتقديم غير المستحق على المستحق، في القبول في الجامعات، وفي التوظيف وفي مكان التعيين والنقل للمُدرِّسات خاصة، وفي دخول المستشفيات، وفي كل حق ونفع متاح للمواطنين بالتساوي يقدم فيه - حسب الأنظمة - الأجدر.. والأكثر استحقاقاً.. لكي يتحقق العدل الاجتماعي وتكافؤ الفرص ويحس الناس فيه بالرضا والطمأنينة.

ولكن المحسوبية تعمل ضد هذا.. فهي معول فساد.. يُقَدَّم فيها غير المستحق.. على المستحق.. لقرابة.. أو نسابة.. أو صداقة.. وهذا فساد ينشر المرارة لدى من استبعدوا وهم الأحق.. ويشعرهم بالظلم والغبن.

ومكافحة هذا النوع من الفساد بيد المواطن الذي وقع عليه الضرر، فإذا قُدِّم عليه من هو أقل جدارة، واستحقاقاً منه، فعليه أن يطالب بحقه (وما ضاع حق وراءه مطالب) مصطحباً الأدلة والمستندات، وهو إذا فعل هذا سوف يحصل على حقه في بلادنا والحمد لله، وسوف يُسهم في مكافحة الفساد وكشف المفسدين، فإنه إذا كثرت التظلمات ضد جهة ما، أو مسؤول معين، فإن المسؤول الذي أكبر منه إذا تحقق من عدالة كثير من تلك المطالبات، وأن أصحابها ظُلموا فعلاً.. سوف يحاسب تلك الجهة وذلك المسؤول حساباً عسيراً، فإن دولتنا والحمد لله - والحق يُقال - قامت على العدل والإنصاف ونفي الظلم عن أي مواطن.. وتحرص على ذلك كل الحرص.. ولكن المسؤولين لن يعرفوا بحال المظلوم حتى يتقدم ومعه الأدلة، وعندها سوف يأخذ حقه، ويساهم في محاربة الفساد في بلاده.

تداول الفساد

والفساد في كل أنحاء العالم كثيراً ما يتحول إلى شبكة يعمل بعضها مع بعض بذكاء وخبث وبقاعدة (شد لي واقطع لك) وابعد الشبهات عني وابعدها عنك.. فقريب المسؤول الفاسد إذا أراد أن يمنحه وظيفة على حساب من هو أحق منه، استعان بمسؤول في جهة أخرى يتعاون معه ويتبادلان تحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، وقس على (التوظيف) كثيراً من الأمور.

إن (تداول الفساد) سائد في عالم اليوم.. ومهما تضع الحكومات من أنظمة يفلح المفسدون في تجاوزها والدوران حولها مبعدين الشبهات عنهم عبر تبادل المصالح في أماكن مختلفة لا يظهر فيها الدافع مباشرة.

والحل الجذري لهذا - في كل زمان ومكان - هو قيام المتضررين بالمطالبة بحقوقهم، مصطحبين أوراقهم وأدلتهم، فإن هذا هو أفضل وسيلة لكبح جماح الفساد، وهو جهاد وطني واجتماعي في سبيل الإصلاح.. فالإصلاح ليس سهلاً لا بد له من جهاد وصبر وذكاء ومثابرة في المطالبة بالحقوق.

وفي بعض الشركات المساهمة

وبعض الشركات المساهمة ينخر فيها الفساد.. أو سوء الإدارة.. بدليل تحقيقها خسائر متواصلة رغم أن مجال نشاطها مربح، ورغم أن الذين يعملون في نفس مجالها يربحون الكثير.. وبعضها الآخر لا تربح إلا قليلاً جداً مقارنة برأس المال الكبير والمبيعات الهائلة.. وتفسير هذا عقلاً هو واحد من أمرين لا ثالث لهما: إما فساد صارخ في الشركة، أو سوء إدارة متفاقم.. وكلاهما سيئان جداً على المساهمين خاصة وعلى الاقتصاد الوطني عامة.. ومكافحة هذا وعلاجه بيد المساهمين أولاً.. لا بد أن يحضروا الجمعيات ويناقشوا بوعي.. ودقة.. ويمارسوا حقوقهم التي كفلها لهم النظام.. ومنها عدم تبرئة مجلس الإدارة.. أو المطالبة بإقالته.. وفق الأنظمة.. والأنظمة تقف لصالح المساهمين إذا تكاتفوا لإنجاح شركتهم ومحاربة ما فيها من فساد.. أو سوء إدارة.. أما الغياب عن الجمعيات.. أو الحضور بلا وعي.. أو بلا اهتمام جاد.. أو بلا معرفة بالأنظمة والحقوق.. فإنه كعدمه.

نقلا عن الرياض