عندما صاح الديك الفرنسي

19/10/2017 4
عبدالله بن عبدالرحمن الربدي

اعلن البنك الفرنسي عن كشف حالة "تجاوزات" مالية في صرف المكافآت لبعض موظفي البنك والتي تم على اثرها اقالة بعض الموظفين واحالتهم الي النيابة العامة، هذا الخبر هز المجتمع المالي وأصاب الكثيرين بالدهشة، وذلك بسبب ارتكاز اغلب الناس الي معلومة عن صرامة وقوة الرقابة من قبل مؤسسة النقد، لذلك لم يتوقع الكثيرين إمكانية حدوث مثل هذه التجاوزات بسهولة بل وخلال عدة سنين ومع بنك لديه شريك اجنبي يعتبر من اكبر بنوك العالم، حيث المتوقع مزيد من الرقابة والاستفادة من الخبرات لدى الشريك لضبط الأنظمة الداخلية، اذن ما لذي حدث وكيف حدث؟ ان من الطبيعي ان يكون لأي تحايل او تلاعب سابقة يتم بعدها الاستفادة من الدرس وتعديل الأنظمة ليتم تفادي مثل هذه المشاكل، اعتقد ما حدث مع الفرنسي هو حادثة جديدة تماما ومبتكرة وعليه أتوقع ان يتم ادراجها من ضمن ما يتم تدريسه لطلاب المالية والمحاسبة وللمتخصصين في المراجعة بشكل عام.

كمحاولة فهم كيف حدثت؟ ولماذا لم تكتشف؟، يجب علينا فهم الطريقة التي يتم بها العمل (بالشكل الطبيعي والنظامي) داخل البنوك لصرف المكافآت للموظفين، هنالك لجنة تسمى بلجنة المكافآت والترشيحات منبثقة عن مجلس الإدارة، احدى مهامها تحديد حجم المبالغ التي تصرف من أرباح البنك كمكافئات وخصوصا للإدارة العليا ولأي مبلغ كبير يصرف كمكافأة، بعد اعتمادها من اللجنة تذهب الي الموارد البشرية ليقوم بتوزيعها حسب الأنظمة واللوائح على الموظفين ويرفع بعد ذلك بيان بأوامر الصرف الي الإدارة المالية ليتم دفعها بشكل نهائي الي الحسابات الموظفين.

هذا بشكل مختصر وبعيد عن كثير من التفاصيل الاخرى ما يحصل لاعتماد وتوزيع المكافآت، اذن وحسب بيان البنك هنالك كما يسميها البيان "تجاوزات" (وهي تسمية ملطفة ومهذبة لما حصل) في إعطاء هذه المكافآت، معنى هذا الكلام انه تم صرف المبالغ من قبل "الإدارة المالية" على انها مكافآت لكن من دون اعتمادها من لجنة المكافآت ومن دون علم الموارد البشرية! هل يصح ان نطلق عليها مكافآت صرفت بطريقة خاطئة؟ اعتقد ان التعذر بانها مكافآت لا يناسب حقيقة ما حدث، وللعلم رئيس المالية السابق وهو فرنسي الجنسية استقال من البنك وعاد الي فرنسا قبل اكتشاف الحالة بعدة أيام.

من جهة أخرى، يوجد داخل البنك إدارة مهمتها مراجعة العمل داخل البنك والتأكد ان الجميع يطبق اللوائح والأنظمة وتسمي إدارة المراجعة الداخلية وهي تعتبر صمام الأمان الأول داخل أي شركة ضد التلاعبات والاختلاسات، نحن هنا امام احتمالين لا ثالث لهما في هذه القضية، الأول ان هذه الإدارة لم تستطع اكتشاف التلاعب وهذا يعني ان هنالك مشكلة في قدرات الإدارة وخلل كبير في اداءها، الثاني ان هذه الإدارة اكتشفت الثغرة والتلاعب او اشتبهت في وجود مشكلة ورفعت ما يسمي بالعلم الأحمر على الإدارة المالية لكن (ولسبب او اخر) تم تجاهل او اسقاط هذه الملاحظة، وللعلم نظاميا هذه الإدارة تتبع لجنة تسمي لجنة المراجعة الداخلية، والتي من المفترض ان تضم على الأقل عضوان مستقلان، واذا كان تم التجاهل او اسقاط الملاحظات ولم يتم العمل فورا على معالجتها واخذ قرار حازم حولها، فهذه مصيبة أكبر وتشير الي تواطئ (في حال صحة هذا الافتراض) اطراف أخرى اكبر، وعليه (وهنا مربط الفرس) يجب الرجوع الي محاضر لجنة المراجعة الداخلية للسنوات الماضية والي تقارير إدارة المراجعة وتفحصها والتأكد من ذكرها او عدم ذكرها لأي ملاحظات حول الإدارة المالية.

ان من المثير للدهشة ان يصدر قرار بعد الإعلان والاعتراف بالمشكلة من قبل البنك بدمج إدارة المراجعة الداخلية وإدارة مكافحة الاحتيال في إدارة واحدة، والأكثر اثارة للدهشة (وعلى عكس الاتجاه العام نحو الحوكمة) ان ترجع هذه الإدارة المندمجة تحت إدارة الرئيس التنفيذي مباشرة بفرار فوضوي وغير معقول، بينما تنص وتجبر مؤسسة النقد وهيئة سوق المال ان تكون هذه الإدارة مستقلة عن سلطة الرئيس التنفيذي وان ترجع لمجلس الإدارة وبالذات الي لجنة المراجعة الداخلية، ان هذا الامر يجب ان يثير التساؤلات حول سبب هذا القرار وتوقيته، بينما كان الجميع يتوقع ان يقوم البنك بإجراءات صارمة وحازمة نحو محاربة الفساد ومنع حدوثه يفاجئ البنك الجميع بإصدار قرار مخالف ومعاكس لجميع البنوك والتشريعات المتعارف عليها وهي من ابجديات الحوكمة بالزام المراجع الداخلي بالرجوع الي الرئيس التنفيذي! 

طبعا لم تقبل مؤسسة النقد بهذه الفوضى المخجلة لترغم البنك على الغاء هذا القرار العجيب ولتعود الإدارة الي لجنة المراجعة ويصدر قرار بذلك بعدها بساعات في غياب تام لدور مجلس الادارة، وهنا يثور سؤال ملح اين مجلس الإدارة من كل ما يحصل؟ اين رئيس مجلس الإدارة؟ اين الحزم في محاربة أي مخالفات وتجاوزات او تلاعبات داخل البنك؟ لم نرى من مجلس الإدارة أي موقف قوى وحازم مما يحدث كيف يسمح للرئيس التنفيذي ان يقوم بإصدار قرارات فوضوية ومتسرعة ومخالفة وغير قانونية بإلزام إدارة المراجعة للرجوع اليه بدل اللجنة؟ هل يعقل ان رئيس المجلس واعضاءه يراقبون كل ما يحدث ولا يمنعون هذا الرئيس ويتم إيقافه بدل ان توقفه مؤسسة النقد بقوة النظام؟ وبدون قرارات حازمة تطمئن المساهمين حول قوة وكفاءة من يديرون البنك؟

ان ما حدث مع الفرنسي قد يحدث مع بنوك أخرى او شركات أخرى، وعليه يجب التأكيد على أهمية استقلالية المراجع الداخلي، استقلالية تامة من سلطة الرئيس التنفيذي حتى في التعينات والرواتب والمزايا، فلا يمكن ولا يعقل ان يكون موظفي ومدير إدارة المراجعة الداخلية يدققون في عمليات لإدارات محسوبة على الرئيس التنفيذي وفي نفس الوقت هذا الرئيس هو من يعين او يكافئ او يفصل أي موظف داخل هذه الإدارة، هنا تكمن أهمية الفصل التام كمرجعية وكتعيينات وكمكافئات وعقوبات الي لجنة المراجعة الداخلية (التي تضم أعضاء مستقلين) واستقلالية كاملة عن الرئيس التنفيذي.

أخيرا أكرر، لكشف ما حدث يجب الرجوع الي محاضر لجنة المراجعة والي تقارير المراجع الداخلي، واكتشاف ماذا حدث فيها، ويجب اشراك مجلس الإدارة في المحاسبة لترك الرئيس التنفيذي يقرر ويعمل بشكل مخالف ومعاكس لما كان الجميع يتوقعه، وعدم اخذ أي موقف قوى حتى الان، يجب ان لا تمر هذه السابقة الفريدة والعجيبة مرور الكرام بل يجب على مؤسسة النقد اثبات قوتها ومحاربة الفساد وتقديم جميع المتهمين الي العدالة، وعلى هيئة سوق المال (والتي للأسف غابت عن المشهد ولم تقم باي عمل) الحزم تجاه مجلس الإدارة ومسائلته لعدم اخذ موقف قوى مع مخالفات الرئيس التنفيذي مع إدارة المراجعة ومخالفته الصريحة للحوكمة، ومن ثم استرجاع حق المساهمين بالقانون.