"الصدمة"..علاج لمرض اقتصادي أم تدمير بقنبلة ذرية؟

26/03/2017 3
خالد أبو شادي

-الطبيب "مع انتهاء الفحص" :اهتم بصحتك.

-صديقي  "بإبتسامة صفراء تكسوها اللامبالاة" : ان شاء الله.

-الطبيب: أنا بحذرك ..صحتك متتحملش لخبطة تاني..السكر عالي.

-صديقي: الأعمار بيد الله يا دكتور.

-الطبيب: السكر دا سوسة الجسم..والصحة ملهاش بديل.

-صديقي: كله على المولى الكريم.

انتهى هذا الحوار "السريع" بين الطبيب وصديقي الذي حجبت متعمدا اسمه احتراما له رغم اشفاقي عليه واستغرابي من تصرفاته، وقد بدا كل منهما على قناعته الداخلية، فالطبيب يرى الوضع العام لصحة الشاب الذي تجاوز الأربعين بقليل في اعتلال كان يمكن السيطرة عليه ببساطة، والصديق اللامبالي يرفض "عدم حرمان نفسه" من أى شيء رغم وضعه الصحي الحرج.

في رأيي المتواضع، هناك اقتصادات تشبه كثيرا حالة هذا الصديق، فالداء معلوم سلفاً، لكن المريض لا يساعد نفسه "بحرمان مؤقت" لبعض ما يشتهيه حتى يتعافى ويشفى بدنه، وبعمل اسقاط مباشر على احدى الحالات ولتكن  مصر حتى لا يخرج أحد المتربصين متهما إياي بتأمر على هذا البلد أو ذاك، نجد ببساطة أنها تعاني من الداء نفسه.

الاقتصاد المصري معتل الصحة، مريض، مع ضعف الإيرادات والإنتاج بشكل عام وقبلهما الاستثمارات ونخر "سوسة الفساد في أوصاله" تزامنا مع عدم وضوح توجه السياسة الإقتصادية، وحتى ان بدت واضحة لبعض المتفائلين فلا أثر لها على أرض وواقع المواطن البسيط.

ويصور البعض الإدارة الحالية وكأنها وجدت ضالتها في العلاج بـ"الصدمة" الحل الأمثل توظيفا لفكر "ميلتون فريدمان" الذي ملأ الدنيا وشغل العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، وتحديدا بداية من حقبة السبعينات.

فبعد "انهاك" معنوي واقتصادي لقدرات الشعب النفسية ومقدراته الاقتصادية في أعقاب ما يسمى "ثورة" الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني ضمن طوفان "فوضى الخريف العربي" بدا مستسلماً تماما لأى خطوة على أساس أنها "طوق النجاة"، لذا استسلم لقرار تعويم الجنيه في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تلاه بساعات رفع أسعار المحروقات.

لم تكن هناك تظاهرات، أو هياج شعبي، حيث وصلت الجموع لحالة "التشبع" بعد متابعة نتائج عكسية متمثلة في عدم استقرار أمني واقتصادي وكأنها فوضى لمجرد الفوضى، واستسلمت بكل طواعية للقرار الذي لم يجرؤ "مبارك" وجهازه الأمني صاحب اليد الحديدية على حتى مجرد التفكير فيه.

تقول "ناعومي كلاين" في كتابها "The Shock Doctrine" أى "عقيدة الصدمة" في ملاحظة جديرة بالتوقف، أنها عندما ذهبت إلى بغداد عام 2004 لرصد ما يجري هناك، لم يكن أحد من العراقيين يهتم بالخصخصة، الإهتمام كان منصبا على البقاء فقط على قيد الحياه، في وطن لا يمكن القول على فرضية إعداده للبيع لشركة مثل "اكسون موبيل" ضربا مفرطا من الخيال.

إن حالة "الصدمة" التي ضُرب بها العراق كانت مقصودة تماما، لعمل "تسونامي" تنتقل موجاته للعالم العربي، حالة متعمدة لخلق نموذج "مرعب" لكوكتيل كبير من المتناقضات اللامتناهية، حيث الثروة النفطية الضخمة المسروقة والمنهوبة والتي لا تخدم أصحابها في ذات الوقت بشكل فعال، والتفكك والتناحرعلى أساس مذهبي، وعبث "داعش"، وعدم استقرار يحصد أرواح العشرات يوميا، والأهم حاجة دائمة إلى الطعام المستورد، وديون يعلو تلها كل صباح.

وأعتقد النتائج واضحة للرصد سواء بفشل نقل "النموذج"، أو نقله منقوصا، أو نجاح نقله أو مجرد المحاولة.

في الحالة المصرية التي اعتمدت إدارتها الحالية على أرضية سياسية بدت صلبة مع آمال الشعب وطموحاته بنجاح "قائده الجديد"، لا يمكن الجزم أن النجاح السياسي المؤقت سيحقق في المقابل "فوران" اقتصادي ناجح ما لم تكن هناك خطة محددة المعالم وجديرة بالثقة.

ومع اللجوء لحلول تم تجنبها لعقود على رأسها قرض صندوق النقد الدولي، بات على المصريين الإستعداد لأوقات غاية في الصعوبة مع التضخم الذي يلتهم القوى الشرائية للجنيه في كل شيء والبقية تأتي تباعا، وهنا تبرز قواعد "مدرسة شيكاغو" التي لا مفر منها: الخصخصة، تخفيض ميزانية الإنفاق الحكومي، ثم الحرية المطلقة تبعا لقانون السوق الرأسمالي والتي لن يرى أحدا "يدها الخفية"، بل سيشعر بنتائجها مع توالي الشهور القادمة من ارتفاع أسعار الكهرباء والسلع، وتسريح موظفين وغيره.

وهنا ربما أتذكر ما صنعه "كارلوس منعم" رئيس الأرجنتين التي كانت مع بوليفيا وتشيلي والأرجواري مرتعا خصبا لتجارب العلاج بصدمات "فريدمان" القاسية شكلا وموضوعا، حيث أكمل بسرعة مذهلة بيع 90% من مؤسسات البلد الحكومية لشركات خاصة قبل منتصف التسعينات.

والشركات الخاصة "غربية" مئة بالمئة طبعا، لكن مفاجأة "العيار الثقيل" جاءت بعد أكثر من عشر سنوات، حيث أن "خطة طوق النجاة" المزعومة لم تأت من صندوق النقد الدولي الذي ربما كان واجهة ليس إلا، بل أتت من "جي بي مورجان" و"سيتي بنك" وفي سرية تامة.

وربما بدا ذلك منطقيا تماما، حيث كان البنكان هما المقرضان الأكبر للبلد اللاتيني ومن ثم التدخل "السافر" في تدمير لا صياغة مستقبله منطقيا، ولا يعد ذلك مفاجئا أو حتى صادما لي، فماذا تتوقع من رئيس بلد غيّر دينه من أجل "عيون السلطة" الزائلة، بالطبع أن يبيعها في مزاد علني دون أن يندم لحظة واحدة.

هذا المثال السابق لتجربة مريرة يعلم الجميع تداعياتها على الأرجنتين التي أعلنت افلاسها مع بداية الألفية وهرب أثرياؤها مع مليارات الدولارات لا تمثل إسقاطا على مصر أو غيرها، ولا يتطنع أحد جازما بذلك، انما المقصود وضع مثال صارخ لما ينتج عن تصور البعض "صندوق النقد" وكأنه الفارس المنقذ في الوقت الضائع قادما على ظهر حصان أبيض دليل على البراءة والطهر الكامل.

فمع قرض 12 مليار دولار، هناك ضريبة بعشرات المليارات من جيوب المصريين، وتوسع الفارق "الشاسع" بين الأغنياء والفقراء، فهذا هو قانون السوق وحريته، الذي يفعّل دون استئذان مع صدماته.

ورغم قناعتي أن الحكومة لم تتعمد توظيف "الصدمة"، حيث تظل خطتها بلا وضوح تام كحال "كثيرين" غيرها، يبقى الإعتماد على فعل "لا شيء" إحتمالا مقبولا، انتظارا لتصحيح السوق نفسه بنفسه مع تأثر جانب الطلب بهيجان وغليان التضخم، ومن ثم يقل هذا "الطلب" على السلع المستوردة ومن بعده الدولار ومن ثم يستقر سعر الصرف، وهذا تصور يبدو ساذجا في بلد تعود على دعم الحكومة الذي يعد بمثابة "شعرة معاوية" لعقود طويلة ومثله العديد من الدول العربية غنيها وفقيرها.

هنا نخلص إلى أن المشكلة "الأكبر" و"الأضخم" و "الأعمق" والتي تتجاوز أى مشكلة مهما كان تعقيدها، هي الإفتقاد الحقيقي للوعي، هذا الأخير الذي يتسبب يوميا في تدهور صحة صديقي الذي تبقى قصته حاضرة أمامي دوما.

 ولهذا السبب "صدمت" أمريكا العراق  لتجعله نموذجا–حسب ظني- لمواطن جديد بلا وعي يغلب على ذهنه التشوش، فلا انشغال بشيء سوى التفكير في البقاء على قيد الحياة، مواطن مقهور من داخله لا يحرك ساكنا ولا يملك ردة فعل، وبهذه "النوعية" لا يكون هناك وطن بل أشلاء.

وتبقى الإشارة إلى أن الوعي شيء متفرد جدا يا سادة، يتجاوز بتفرده الثروة والتعليم، فكم من غني يبدد ثروته بتبذير لا يحكمه "وعي"، وكم من حامل لشهادة جامعية يعاني من أمية أشد فتكا ممن لا يقرأ ولا يكتب أصلا، ومع تغييب الوعي أو وأده يصبح علاج اقتصاد "بلادنا" المعتلة بـ "الصدمات" أو غيرها أشبه بتدميره بقنبلة ذرية.

خاص_الفابيتا