اقتصاديا : أكبر تحدي فكري

12/02/2017 12
فواز حمد الفواز

 ذكر رئيس ارامكو في دافوس أن 30% من استهلاك النفط يذهب للنقل في الشاحنات الكبيرة و الشحن الجوي والبحري وأن ليس هناك خطر على قطاع المواصلات في العشرين سنة القادمة ، ولكنه لم يذكر أن عشرون سنة لا شيء في عمر الشعوب.

ولا أعرف إذا هذا التصريح يحمل نبرة تحذيرية أو محاولة طمأنة ، وقد لا تكون الصبغة المعنوية مهمة. و لكن المسار الاقتصادي للنفط أكثر أهمية من التجاذبات ذات الصبغة الاعلامية أوالمعنوية. الحديث عن النفط يعيد فتح المساحة الفكرية للاقتصاد و إعادة النظر فيما يتم من سياسات اقتصادية.

المسار الاقتصادي المطروح اليوم في غالبه تكنوقراطي ذات صبغة مالية لكنه دون بوصلة تشير إلى الإنتاجية وتوظيف للموارد ، البوصلة تحتاج قاعدة فكرية مناسبة للمكان و الزمان.فكريا ،البنية التحتية الاقتصادية  تأتي بما يسميه الاقتصاديون : مجمل عوامل الإنتاجية - Total Factor Productivity ( TFP) -  وقياس الإنتاجية - سرعة الحراك الاقتصادي المحدد للنمو - يبدأ من ما لديك من هذه العوامل والقدرة على النمو من هذا المنطلق و ليس بسبب إضافات طارئة. أكبر ما تم في الاقتصاد السعودي منذ بداية السبعينات من القرن الماضي  يدخل في تصنيف الاضافات الطارئة ، طبعا كأن هناك نمو و لكن التوسع كان أكبر تأثيرا .

وهذا سر التعقيد في فهم وتشخيص الاقتصاد الوطني إذ يخلط الكثير بين التوسع (توظيف الموارد الطارئة ) والنمو ( توظيف الموارد من نقطة البداية ) الأول حدث في المملكة و الثاني في النرويج و كليهما دول مصدرة للنفط . لابد من قراءة تاريخ الاقتصاد الوطني و آفاق مستقبلة من عدسة ( TFP).

الفترة الأولى كانت أقرب إلى التطور الطبيعي في تكاتف العناصر المكونة - قلة المال و الحاجة لتوظيفه بعناية والحرص على الأخذ بالتعليم و المعرفة و الاعتماد على العناصر البشرية الوطنية وتأسيس الجهاز الحكومي ممثلا بالوزارات ودور ارامكو التاريخي في نقل التقنية و تأسيس شركات وطنية عائلية ، هذه الحقبة امتدت من مرحلة التأسيس إلى أن بدأ التخطيط المنظم مع أول خطة خمسية في 1970 ، ارتفاع أسعار النفط المؤثر في 1971 كأنه نذير لحقبة جديدة .

الفترة الثانية بدأت بإنجازات كبيرة  غيرت  نوعية وجودة الحياة لأغلبية المواطنين ولكن أهم تغيير في الفكر الاقتصادي كان في الانتقال من النمو إلى التوسع - النمو يعتمد على صهر عوامل الإنتاج الموجودة لكي ينمو الاقتصاد عضويا بينما التوسع يعتمد على توفر رأس المال بسهولة غير متوقعه وسياسات حكومية غير محسوبة في الاستقدام إلى حد التستر وتقليل دور رأس المال و المعرفة و انحدار الحرص على التعلم والتعليم بالرغم من التوسع المادي و البشري وتكاثر الشهادات العليا دون تمحيص ، أحد الضحايا كان ولايزال التعليم الفني. يلوح في الأفق نهاية الفترة الثانية بسبب اهمال الإنتاجية وارتفاع تكاليف الحكومة  المضطرد من ناحية وتآكل في مصدر الدخل الرئيس : النفط من ناحيتين ، الأولى أن  استمرار النمو في استهلاك المملكة من النفط غير ممكن في المدى المتوسط ، والأخرى هناك ما يدل على تآكل تدريجي لدور النفط كما عبر عنه بطريقة غير مباشرة تصريح رئيس ارامكو بسبب البدائل وانخفاض السعر الحقيقي. يذكر مسح شركة البترول البريطانية (BP) أن حصة الوقود الاحفوري من الطاقة سوف تنخفض من 86% في 2015 إلى 75 في 2035 .

اقتنع الفريق الجديد ممثلا بقيادة  سموالأمير محمد بن سلمان  تحت مظلة مجلس  الاقتصاد والتنمية بخطورة الموقف وبدأت الفريق الجديد من خلال " الرؤية " وبرامج التحول الوطني بسلسلة سياسات وبرامج تطمح ليس لوقف النزيف المالي فقط ولكن لتحقيق اهداف محددة مثل تقليل الاعتماد على النفط ورفع نسبة النمو، ولكن ليس هناك ما يشير إلى مركزية الانتاجية وبوصلة  ( TFP).

بدأت الفترة الثالثة بسبب عدم قدرة نموذج الفترة الثانية على الاستمرار من ناحية واستعداد قيادي للتعامل مع مخاطر الاستمرار على نموذج بدأ واضحا أنه استهلك. الاشكالية الفكرية تتمخض في ايجاد التوازن الممكن في السيطره على المخاطر المالية و الاقتصادية من ناحية و الاعداد للفترة الثالثة من ناحية اخرى. هذا تحدي من الطراز الاول. من زاوية هذا العمود ما يهمنا تتبع الدور المحوري  لمجمل عوامل الانتاجية (TFP).

اذا أخذنا دور العمالة ( كل العمالة في الاقتصاد ) سنجد صعوبة منهجية ، فهل المقصود الطاقات البشرية الوطنية أم كل العمالة المتوفرة في الاقتصاد والاستعداد لمواصلة الاستقدام كما تشير الأرقام من تزايد الاستقدام بالرغم من البطالة و ضعف توظيف المواطنين.

العامل الآخر يتمثل في رأس المال و هذا في تجاذب آخر بين استمرار المصروفات الثابتة و الاستثمار من ناحية و انخفاض مصادرة بسبب انخفاض اسعار النفط. ايضا للمال زاوية  أخرى لابد من الاشارة إليها ، فهناك سبل توفيره من خلال الاقتراض كما تم بكفاءة عن طريق اصدار سندات بقيمه 17.5 بليون دولار، واستعداد الحكومة لإصدار صكوك لهذا العام كما ورد في الميزانية.

يقابل هذا الاقتراض تردد واضح في خفض المصروفات بوضوح كما عبرت عنه ايضا ميزانيه العامين الماضين و قلة الاستثمارات تاريخيا كنسبة من المصروفات العامة وشبح ارتفاع الفوائد .اخيرا بدا و كأن القدرات التنظيمية تحت ضغط على أكثر من صعيد ، فمن ناحية تلاقي الحكومة صعوبة في إيجاد الكوادر الكفؤ مما يخلق حالة من عدم التعاون مع الكثير من الأجهزة الحكومية ،ومن ناحية أخرى نشهد تزايد في توظيف  الاستشارين الذين لا يعرفون الكثيرعن الاوضاع الوطنية الخاصة كما أن توظيفهم لا يساعد في زيادة سعة الجهاز الحكومي .

فبينما نستعين كثيرا بالاستشاريين الوافدين بدا واضحا أنه بالرغم من أكبر برنامج للبعثات إلا أن هناك ضعف في توظيف المقدرات البشرية .

يبدو أن البرامج المعلنة لم تأخذ عدسة (TPF) كمسار اساس للانتقال من الفترة الثانية إلى الثالثة ولذلك هناك خلل في المفاهيم على اكثر من صعيد. طبيعة الاقتصاد السعودي تجعل الحلول مالية الطابع وبالتالي في دائرة الاقتصاد السياسي. فمثلا كان واضحا أن مرفق الاراضي  مستحق لعملية إصلاح و لكن بدا وكأن هناك تردد في التنفيذ على الاقل إلى حد كتابة هذه السطور بعد نقاش و دراسات استمرت منذ 2012 .

لعلي اجد عذرا في أن النسبة عالية و التعريف مطاطي. الأحرى أن تكون النسبة اقل من 1% و أن تشمل الرسوم كل الاراضي عدا ما تحتاج العائلة من مساحة تصل إلى أقل من ألف متر مربع. كذلك ظهر تردد واضح في سياسة العمل، فهناك حاجة واضحة للحد من الوافدين في قطاع التجزئة وبعض المهن مثل سائقي سيارات الأجرة ، ولكن بدا واضحا أننا لا نرغب في التجريب بجدية أو لا نريد تحمل تبعات الخدمات جراء القرارات ولكن يقابل ذلك أيضا الحاجة لتفعيل المادة 77 من نظام العمل. و لم نأخذ بقرار مؤثر في تقليل طلاب الجامعات وتحويلهم للتعليم الفني و رفع كفاءة التعليم الجامعي ومطالبته بأبحاث أصيلة و جدية.

زيادة الرسوم على العمالة خطوة في الاتجاه الصحيح ولكنها ليست بديل عن توظيف المواطن مباشرة وبالتالي رفع دخله. الرهان على أمور فنية مثل التخصيص والاستثمارات الخارجية ليست بديل عن إصلاحات مؤثرة، كما أن لها تفاعلات لم تدرس بعناية فمثلا هناك ضعف مزمن في الحوكمة إلى حد اجهاض برنامج التخصيص .

التوجه لتقليل الدعم مع مساعدة الكثير من خلال حساب المواطن خطوة في الاتجاه الصحيح و سبق أن كتبت قبل حوالي  عشر سنوات عن هذا الموضوع . تفعيل مسار TFP يطلب المساس بتغيير تصرفات العامة وهذا لم يتم إلى الآن ، كما أن هذه الخطوات تتطلب تزامن مؤثر لكي يتغير مسار الأنتاجية.

يبدو لي أن المنطلق الفكري الذي بدا به الفريق ليس اقتصادي في الجوهر وإنما مالي إذ كان التركيز على الصندوق السيادي من ناحية والسيطرة على الحالة المالية التي نشأت بسبب الارتفاع المضطرد في المصروفات الحكومية في السنوات التي سبقت الفريق و الانخفاض الحاد في اسعار النفط. الاحرى أن تكون نقطة الأنطلاق اقتصادية  الجوهر من خلال تتبع بوصله TFP و هذا لم يحدث و لذلك لابد من المراجعة والتصحيح خاصة أن بعض ما اتخذ من خطوات يصب في نفس الاتجاه جزئيا فقط ، ولكن الإشارات سوف تبقى ضبابية في غياب بوصلة (TFP) . السيطرة المالية ضرورية و لكنها ليست بديل عن منظومة اقتصادية تنتهي بتفعيل عوامل الإنتاج وتغيير تصرفات الفعاليات الاقتصادية و تغيير تصرفات الناس.

خاص_الفابيتا