رفقا بهذا المواطن البسيط

15/01/2017 1
خالد أبو شادي

اضطر الرجل لبيع خاتم الزواج..تخيل!! معنى ذلك أنه لم يبق في البيت شيء بعد بيع ذهب زوجته قطعة قطعة..باعه كي يأكل هو وأولاده، حيث يعمل في مقاولات البناء التي تضررت من ارتفاع الأسعار.

هذا ملخص قصة أحد العمال حكاها صديق وربما تكون متشابهة مع كثيرين مثله توجهوا إلى مدخراتهم على اختلاف أشكالها لمواجهة غلاء الأسعار وتراجع النشاط الاقتصادي.

إن المواطن البسيط هذا لا تهمه السياسة، بقدر ما يهمه توفر حاجاته الأساسية في المتناول، واتجاهه إلى مدخراته –إن وجدت- يعني استخدام آخر أسلحته في مواجهة الغلاء.

وبمقارنة نسب التضخم في مصر، قبل وبعد تعويم الجنيه، نجد فارقا كبيرا، ففي أكتوبر بلغ 13.56% على أساس سنوي، بينما في نوفمبر حيث أول شهر بعد التعويم قفز إلى 19.42%، ثم 23.26%في ديسمبر.

هذا يعني ببساطة تواصل تآكل القوى الشرائية للجنيه الذي بحوزة هذا "البسيط" والذي تراجع أمام الدولار مقتربا من مستوى 20 جنيها في ديسمبر "ويمكن تجاوزها لأعلى مع المعطيات الراهنة"، ومع ضعف الرواتب يتعقد الأمر في مواجهة الغلاء بالتزامن مع فوضى تشمل الأسواق لتحرك الأسعار صعودا مع حركة الدولار حتى حال عدم وجود رابط بين السلعة و"جنابه" أى الدولار من الأساس.

ورفع سعر الفائدة 300 نقطة أساس عقب التعويم ليصل حاليا 14.75% لا يعبر عن الواقع، فالودائع تتحمل هي الأخرى ضريبة "انتفاخ الأسعار"، فمعدل الفائدة الحقيقي تقريبا -8.5%، نعم بالسالب تبعا لنسبة التضخم الحالية.

وليس من الصعب توقع قفزة كبيرة للتضخم في يناير مع قفزات سعرية جديدة شملت معظم السلع استقبالا للعام الجديد ليزيد الوضع صعوبة لإقتصاد يئن في فترة حرجة على جميع المستويات مع تحولات جيوسياسية دراماتيكية تعيشها المنطقة بأسرها.

ومع ضعف الاستثمارات القادمة من الخارج يصبح الوضع أكثر صعوبة بالإضافة إلى الفجوة الكبيرة بين الصادرات والواردات فعجز الميزان التجاري توسع إلى 3.16 مليار دولار في أكتوبر بالمقارنة مع عجز قدره 2.57 مليار دولار في سبتمبر.

وكان من المنتظر أن تستفيد صادرات البلاد من تخفيض العملة المحلية بعد التعويم، لكن مع ضعف الإنتاج ولا أريد القول الحملة ضد مصر( تحييدا لنظرية المؤامرة)، بل لضعف الادارة والفساد والاتجاه عن طريق "الاستسهال" للترويج لثقافة مجتمع استهلاكي يعتمد على الاستيراد بكثافة مع بداية الألفية الجديدة ازداد اختلال الميزان التجاري ومن ثم الطلب على الدولار.

ومع عدم تمتع الاقتصاد نفسه بالمرونة التي تمكنه من مجابهة الصدمات لإنحسار مصادر العملة "الصعبة" في السياحة التي تئن وقناة السويس التي تأثرت سلبا بضعف حركة التجارة ومنافسة من منافذ أخرى بجانب تحويلات العاملين في الخارج التي يذهب جزء منها للسوق السوداء زاد الحمل ثقلا.

وتسعى الحكومة للترويج بعد أيام لبيع سندات بحوالي ستة مليارات دولار، ليزداد ثقل جبل ديونها الذي ناهز 85% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015، بعد حصولها على الشريحة الأولى من قرض صندوق النقد الدولي البالغ اجماليه 12 مليار دولار خلال ثلاث سنوات.

إن التركيز على الإستدانة لحل مشكلة توفر العملة الأجنبية مع عدم وجود إفراز أو نمو عضوي من بنيان الإقتصاد نفسه للدولار يدخلنا في حلقة مفرغة تعني ببساطة تواصل تراجع قيمة الجنيه لعدم وجود "جدار حماية" حقيقي يدافع عنه.

وقصة اقتراب احتياطي النقد الأجنبي من 25 مليار دولار مؤخرا تطرح سؤالا هاما، ما هو "تفصيل" هذا الرقم، أو بشكل أكثر مباشرة، ما قيمة الودائع من دول عربية به، القروض، والاستثمار المباشر..الخ؟

ان تكلفة ترك العملة المحلية لعوامل العرض والطلب في السوق يدفعها "مواطننا البسيط" الذي لا يقتنع فقط بإستتباب الأمن وسيظل يدفعها طالما لا توجد حماية له على الأقل من جشع التجار أو لنقل فوضى التسعير بالأسواق.

ولا أريد الحديث هنا عن مصطلح الركود التضخمي Stagflation واحتمالية دخول دائرته الضبابية الكئيبة، فمصر لديها عدد سكان ضخم يمكنه دفع الطلب بقوة مع تحسن الأوضاع الاقتصادية.

ولا التضخم الحاد Hyperinflation الذي يعني في أبسط تعريف له زيادة الأسعار عن معدل 50% في الشهر، وبالطبع هناك حالات زاد فيها التضخم كل عدة أيام أو بشكل يومي أو عدة مرات في اليوم الواحد والذي عانت منه دول عديدة القرن الماضي، فيما تبقى حالة فنزويلا في الوقت الراهن شاهدا على سوء ادارة موارد الدولة التي لديها أكبر احتياطي من النفط في العالم.

ففي عشرينيات القرن الماضي كان الألمان يشعلون مدافئهم بحرق الأموال "المارك" وليس الفحم، كون الأخير أعلى تكلفة بعد أن تسبب طبع الأموال لتمويل ديونها بدلا من رفع الرسوم وزيادة الضرائب في تضخم خرج عن السيطرة.

ومثال زيمبابوي أيضا ليس ببعيد والتي طبعت 100 مليار دولار زيمبابوي في ورقة نقدية واحدة بعدما تفشي التضخم الحاد نتيجة السياسة الخاطئة من "موجابي" الذي موّل الإنفاق الحكومي بطبع النقود خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، لكن يبقى مثال المجر في الأربعينات الأكثر ضراوة من غيره بين الدول والذي جاء نتيجة الحرب العالمية الثانية.

وتسببت المعاهدة التي وقعت مع السوفييت وقضت بدفع تعويضات ضخمة من قبل المجر تراوحت بين ربع إلى نصف ميزانية البلاد في ارتفاع حاد للتضخم مع طبع الحكومة مزيدا من "البينجوي"-عملة المجر آنذاك- حتى طبع ورقة واحدة فئة كوينتليون بينجوي أى مليون مليار أو واحد صحيح وأمامه ثمانية عشر صفرا.

وهذه أعلى قيمة اسمية لعملة تطبع في التاريخ، وكان من الطبيعي أن توجد ملقاة في الشارع ويجمعها عاملو النظافة بعد اصدار العملة الجديدة "الفروينت" مع الحكومة الجديدة.

(ويبقى إصدار عملة محلية مصرية جديدة خيارا واردا وإن لم يطرح بعد).

مصر تعيش تحديات كبيرة لا يمكن إنكارها مع التحدي الأمني خصوصا في سيناء، تحدي توفير الغذاء والدواء الذي يستورد معظمه، ويبقى تحدي مواجهة الفساد "ضخما" بما فيه الكفاية للتركيزعليه.

ان الفترة الحالية تمثل تحوّلا ولها ضريبة مؤكدة وأعتقد أن معظم المصريين على استعداد لدفعها، لكن مع ضرورة معرفة اتجاه البوصلة، فهل سيكون هناك جديد بعد الأشهر الستة وهي المدة التي طالب فيها الرئيس الجميع بالصبر لحدوث انفراجة؟ التفاؤل يبقى خيارا من أجل الوطن فربما تحدث المعجزة.

خاص_الفابيتا