المغامرة المصرية

07/12/2016 1
خالد أبو شادي

قبل أكثر قليلا من شهر أقدمت مصر على خطوة تاريخية تتسم بالمغامرة بتعويم الجنيه بعدما تسببت السوق الموازية "السوداء" في ارباك شديد في تحركه وعمل انحراف سعري كبير جعل ربط العملة المحلية بالدولار بمثابة وضع شكلي لا حقيقي مع اتساع الفجوة بين السعر الرسمي  للدولار في البنوك عند 8.88 جنيه مقابل 18 جنيه للسوق السوداء قبل التعويم مباشرة.

اللافت للنظر أن خطوة التعويم أو تحرير سعر صرف الجنيه بشكل كامل كان يقابلها تخوفات وهواجس كثيرة تتعلق بالأمن في المقام الأول وامكانية حدوث مظاهرات واسعة النطاق تضر بأمن البلاد، لكن بالنظر إلى التوقيت والظروف نجد أنه تم استيعابها سريعا بل لم تكد تمر ساعات إلا وتم رفع سعر البنزين والسولار وكأنه علاج بالصدمة أو على طريقة ذبح الجمل "إما قتلته أو قتلك".

الارتفاع الكبير للدولار في السوق غير الرسمي خلال الأيام السابقة للتعويم (بدأ في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني) بعد تجاوزه 18 جنيها ساهمت في تسليط عكسي للضوء على تراجع سعر العملة الخضراء من 18 إلى 13 جنيها بدلا من التركيز على تحرك سعرها "الرسمي" من 8.88 جنيه إلى نطاق 13 جنيها الذي تسبب في تضرر الكثير من الشركات خصوصا التي تستورد الدواء وغيرها من السلع الاستراتيجية التي بات لزاما عليها تحمل فارق سعري كبير تجاوز50% وأكثر حاليا.

وبغض النظر عما حدث والتكلفة التضخمية الكبيرة التي لازمت القرار فقد تم تجاوزه واستوعبه الشارع المصري من المنظور الأمني، لذا السؤال الهام هنا، لماذا لم يتحرك البنك المركزي مبكرا بهذا القرار "حوالي عشرة أشهر أو يزيد قليلا" كي يجني عدة فوائد أهمها على الاطلاق عدم تحويل الدولار لسلعة بشكل واسع النطاق بين شرائح الطبقة المتوسطة ويزيد ضغط السوق السوداء وتتسع دائرة عدم الاستقرار؟؟!

أهم فائدة في رأيي هي سهولة تحويل الدولارات المكتنزة في يد الأفراد إلى البنوك لبناء احتياطي أجنبي، لأنه مع تزايد الفارق السعري بين السوق السوداء والسعر الرسمي أدى ذلك إلى ظهور طلب ضاغط جديد بهدف تحويل القيمة "الدولرة" من العملة المحلية إلى الأجنبية بجانب طلبات المستوردين والطلبات الاستثمارية الأخرى.

والفائدة الثانية تتمثل في تقليص الفترة الزمنية التي من المتوقع فيها تذبذب الجنيه أمام الدولار بعد التعويم حتى استقراره، حيث ارتفع السقف السعري للتخلي عنه ومن ثم تطول عملية خفض اكتنازه ويتواصل التذبذب، هذا بجانب المكاسب الضخمة من فارق الشراء والبيع.

للأسف تآكل الاحتياطي من 36 مليار دولار عام 2011 إلى 19.04 مليار دولار نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان السبب الرئيسي في الضغط على تحرك الدولار بالتزامن مع تزايد فجوة عجز الميزان التجاري لضعف الصادرات وارتفاع فاتورة الواردات، ولم تنجح عطاءات البنك المركزي الضعيفة التي لم تتجاوز 120 مليون دولار أسبوعيا إلا كمسكنات وقتية نظرا للخلل الكبير بين المعروض الرسمي من الدولار والطلب عليه ومن ثم نشطت السوق السوداء بقوة.

وبفرض ضعف أداء الاقتصاد الذي لا يتمتع بمرونة كافية تمكنه من تجاوز الصدمات مهما كان نطاقها وهو ما كان ملموسا في السنوات القليلة الماضية والحالية في أعقاب "فوضى الخريف العربي" فإن وجود احتياطي نقدي كاف يمكن أن يؤجل المشكلة ويكسب وقتا  فقط مجرد وقت للساسة وصانعي القرار لمحاولة ايجاد حل لها.

وفي رأيي فإن مليارات الأشقاء في الخليج التي حاولوا بها دعم الحكومة المصرية لو أتت تحت مظلة مؤسسة قوية كصندوق النقد لكانت أفضل من طلب قرض 12 مليار دولار من الصندوق نفسه..فحتمية وجود خطة اصلاح هيكلي واضحة ومتابعة لصيقة لها (رغم قسوتها) هي الأساس الأول لوضع الاقتصاد المصري على خط تحرك مستدام.

حاليا يجب أن يكون الهدف واضحا في تمرير نتائج أى تحرك حكومي لبنية الاقتصاد الحقيقي لدعم نموه من خلال الدورة الاقتصادية وليس مجرد اكتناز الدولارات في البنوك وان كان ذلك هاما في المدى القصير لدعم الاحتياطي للدفاع عن العملة في أى وقت، حيث يتربص تمرير التغير السعري الكبير للكثير من السلع المعمرة مثل السيارات على نطاق واسع بالمستهلك ليرفع مجددا الطلب بقوة على الدولار.

لكن ما سيقيل أى اقتصاد من عثرته هو الإنتاج وليس السياسة النقدية وحدها، التي من المأمول أن تمهد الطريق لتوازن طلب وعرض العملات الأجنبية بشكل حر وتام، حيث تقوم البنوك حاليا فقط بشراء الدولار من أى جهة أو أفراد ولا تبيعه إلا لمستوردين، وهذا يُبقي على حالة عدم الاتزان حتى يقتنع المستثمر الأجنبي باستقرار تحرك سعر الصرف ويضخ أمواله في شرايين البناء والتنمية.

"عربون المحبة" المتمثل في قرض صندوق النقد كما وصفه وزير التموين السابق جودة عبدالخالق يجب أن يتبعه ضخ رؤوس أموال أجنبية تنتظر استقرارا في سعر العملة قبل أن تستثمر أموالها في مصر، وهي تتطلب مجهودا كبيرا للإقناع مع تطمين المستثمر المحلي كي يتجرأ بدوره هو الآخر تزامنا مع رفع شعار لثورة حقيقية تستهدف الفساد والروتين الإداري المعوق للانتاج حتى لا تتحول المغامرة المصرية بتعويم الجنيه إلى مقامرة مع تواصل ارتفاع التضخم والتركيز فقط على مجرد تدبير الدولارات لشراء الغذاء وبقية ضروريات الحياة.

خاص_الفابيتا