خطوات أولية نحو الصناعة-4

30/11/2016 1
د. محمد بن ابراهيم الماجد

وسط نشاط ملحوظ في أروقة الأجهزة الحكومية المعنية في دول الخليج لتنويع مصادر الدخل ومكافحة البطالة، يبرز قطاع الصناعة المتقدمة كقطاع قادر على توفير الحلول المناسبة للتحديات الحالية والمستقبلية.

إلا أن تطوير قطاع الصناعة المتقدمة يخلق تحديات كبرى تجعل الكثير من العاملين على استراتيجيات التحول الاقتصادي أقل حماسا وأكثر ترددا على جعل القطاع محورا اساسيا.

وأول هذه التحديات هي الشعور بالعجز نتيجة متابعة الصراعات المحمومة في المنافسة العالمية في هندسة التصنيع والتي أصبحت أكثر ضراوة وشراسة بين دول العمالة الرخيصة ودول التقنيات العالية وتسيطر فيها الأسواق الاقتصادية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية. ويشعر عدد من المسؤولين بصعوبة الدخول في مثل هذه المعارك الخاسرة وهم يعلمون أن دول الخليج ليست دولا لديها عمالة رخيصة ولا دولا لديها تقنيات عالية كما لا تملك سوقا اقتصاديا كبيرا. 

ويؤمن الكثيرون بأن الابتكار والتفكير العميق يمكن أن يوفر حلولا خلّاقة، وأن دول الخليج يمكنها أن تستفيد من تلك الصراعات المستمرة ووضع الاستراتيجيات المناسبة لتتمركز في موقع قوي في خارطة الصناعة العالمية.

فمن ناحية تملك دول الخليج مصادر الطاقة والمواد الأولية الأساسية وتملك شريحة عظيمة من الشباب المتعلم وتملك مواقع جغرافية مؤهلة للمشاركة في سلاسل الامداد العالمية كما تملك البنيات التحتية المتطورة.

ولا يمكن لدولنا أن تنافس دول العمالة الرخيصة في القطاعات التي تسيطر عليها تلك الدول وهي التي تستورد عمالتها منها كما لا يمكنها أن تنافس دول التقنيات العالية التي تستورد معداتها وتجهيزاتها منها وهي التي أيضا لم تنجح بعد في تطوير أنظمتها التعليمية ولا البحثية بشكل منافس. 

فكيف لنا أن ندخل في قطاعات الصناعة المختلفة والصورة قاتمة كما تبدو للمشاهد؟ وللإجابة على هذا السؤال لابد من عمل فرق متخصصة والتي لا يشك أحد ذلك يتم الآن من قبل الأجهزة المعنية وبمشاركة كبيرة من مكاتب استشارية عالمية. 

ستناقش هذه السلسلة المستمرة من المقالات مقترحات يمكن أخذها في الاعتبار من قبل هذه الفرق الاستشارية المتخصصة للاستفادة منها في الوصول الى الاستراتيجيات الأمثل لتحقيق التحول الاقتصادي بتطوير القطاع الصناعي. وهذه المقترحات تبرز المحاور المختلفة للاستراتيجية المطلوبة وتتناول المقترحات أسئلة متعلقة مثل:

1-ماهي القطاعات الصناعية التي يجب استهدافها والمزايا النسبية لها؟

2-ماهي أبرز التحديات التي ستواجه تأسيسها في دول الخليج؟

3-ما مستوى التقنيات المستخدمة في الإنتاج ودور الصناعة-4 المقترح فيها؟ 

4-ما هي الأليات المناسبة لتطوير الكوادر الوطنية للعمل في هذه القطاعات الصناعية؟

5-ما الدور المأمول من القطاعين العام والخاص في تأسيس سلاسل الامداد شاملة أليات التمويل؟

6-سبل تأسيس الشركات الوطنية الصغيرة والمتوسطة لكي تنجح في مجال مترابط ويواجه منافسة عالمية.

ويناقش ما تبقى من هذا المقال إجابة السؤال الأول. فالقطاعات الصناعية التي يجب استهدافها هي التي تلك التي تخدم القطاعات الاقتصادية التي تملك دول الخليج ميزات تنافسية فيها أو التي لها قيمة استراتيجية عالية.

فمثلا قطاع تحلية ومعالجة المياه يعتبر قطاعا حيويا وله قيمة استراتيجية لا تخفى على أحد. وتعتبر دول الخليج أكبر منتج ومستهلك للمياه المحلاة في العالم إلا أنها لا تملك تقنيات التحلية بشكل متكامل، ولا توجد منظومة صناعة تحلية المياه كما هو مؤمل من جانب تأسيس مصانع التوريد ولا من جانب تأهيل الكوادر الوطنية ولا نقصد فقط عمليات التشغيل والصيانة.

وتقود المؤسسة العامة لتحلية المياه في المملكة جهود تحلية مياه البحر والمياه الجوفية من خلال اختيار التقنيات المناسبة والتعاقد مع الشركات العالمية لبناء محطات التحلية. ولابد من توطين القدرات الوطنية في مجال تصميم وانشاء محطات التحلية وكذلك في دعم الصناعة الوطنية للمشاركة الرئيسية مستقبلا.

وعلى بعض الجامعات تركيز جهودها البحثية وبرامجها الدراسية لدعم هذه التقنيات للوصول الى حجم أبحاث وتطوير مناسب والتنسيق مع الجهات البحثية المتخصصة في المياه والطاقة في كل من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومدينة الملك عبدالله للطاقة النووية والمتجددة لتوفير دعم انتاج التقنيات اللازمة لهذا المجال الحيوي.

ولتوفير القوى العاملة المناسبة كفاءة وعددا تخصص كليات تقنية متكاملة للعمل في جميع مراحل البناء والتشغيل.

ومن المؤمل ألا يتم التعاقد مستقبلا لإنشاء أي محطة أو تشغيل وصيانة للمحطات القائمة بمعزل عن استراتيجية التوطين هذه.

ويشكل قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات وصناعة الوسائل المتعددة مجالا اقتصاديا كبيرا ممكن أن تنافس دول الخليج العالم لوجود قوى عاملة بشرية عاطلة عالية جدا في صفوف الإناث ممن يحملن تعليما عاليا.

كما تتوفر القدرة والرغبة في الاستثمار المالي الكبير في التقنية وفي تطوير القوى البشرية ووجود بنية اتصالات وتقنية معلومات ممتازة.

وتتميز المنطقة بوجود محتوى معلوماتي تاريخي وديني واجتماعي مميز ومطلوب من دول اسلامية كثيرة.

وتطور تقنيات هذا القطاع السريع يتطلب تطوير مستمر للكوادر البشرية والبنية التحتية مما يسمح لدول جديدة إمكانية أن تتولي القيادة فيه مستقبلا.

ويتيح هذا المحتوى المعلوماتي المتنوع تطوير صناعة الأفلام المتحركة للأطفال بضوابط وطنية واسلامية وكذلك بتطوير برامج تعليم عن بعد في مجالات اللغة العربية والفكر الاسلامي والتقنيات بشكل عام.

ولا يخفى على أحد أهمية توطين صناعة الدفاع والأمن وصناعة الدواء والتجهيزات الطبية للبعد الاستراتيجي الهام وضمان الحصول على الحد الأدنى من الاعتماد على الذات. وهذه الصناعات يجب رفع القدرات الوطنية فيها بعيدا عن حسابات الربح والخسارة ولا يعنى عدم الاهتمام بالجودة العالية في الإدارة والحوكمة.

وختاما ان أي توجه لتوطين مثل هذه القطاعات الصناعية الهامة يتطلب رؤية شاملة تأخذ في الاعتبار ما يربطها جميعا من المشاعات الصناعية (Industrial Commons) وتضع سياسة تدريب مبتكرة لتحقيق تأسيس حقيقي لصناعات مستدامة.

في المقال القادم نستعرض أبرز التحديات التي ستواجه تأسيس أي صناعة متقدمة في منطقة الخليج.

خاص_الفابيتا