هل نحن على شفا الإفلاس؟

23/10/2016 5
د. إحسان بوحليقة

«ثروة الأمم» عنوان كتاب أصدره أبو عِلّم الاقتصاد الحديث، الإسكوتلندي آدم سميث في العام 1776 أي قبل 340 عاما، يتساءل فيه عن ماهية ثروة البلدان. والفكرة المحورية للكتاب أن النظام الاقتصادي يصلح نفسه بنفسه عندما يمتلك القدر الكافي من الحرية، وهذا ما يعبر عنه في أدبيات الاقتصاد التقليدية بــ«اليد الخفية». وعلى الرغم من أن ظاهرة «اليد الخفية» تدرس في أول مقرر من مقررات الاقتصاد في الجامعات، إلا أنها الأصعب فهما والأصعب تطبيقا، بل أن كثيرا ممن لم يدرسوا علم الاقتصاد دراسة منهجية، لا يدركون أن الإدارة الاقتصادية هي الأساس في توليد ثروة البلدان، والحفاظ عليها، وتنميتها، وفي نشر الرفاه الاجتماعي، والازدهار الاقتصادي.

وليس أدل على ذلك من أن بلدانا فقيرة بكل شيء ما تلبث أن تنتقل من حالة الفقر لحالة الثراء، مسلحة بحسن التدبير واستثمار ما لديها من مزايا. لنأخذ سنغافورة على سبيل المثال، التي كانت مُعدمة عندما انفصلت عن ماليزيا في العام 1965، ينتشر فيها الفقر والبطالة ومساكن الصفيح والعشش، الآن ترتيبها الثالثة على بلدان العالم بمعيار نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فقد تمكنت سنغافورة أن تجعل اقتصادها ينمو، نموا متواصلا متئدا بمعدل متوسطه 8 بالمائة سنويا على مدى أربعين عاما.

لم يكتشف أحدٌ موارد طبيعية جديدة ولم يستقدم أحدٌ بشرا من بلدان أخرى، ما تغير هو استراتيجية اقتصادية مُحكمة نُفذت بإصرار وبشفافية، فتحولت سنغافورة إلى جنة للمستثمرين من شتى بقاع الأرض، ونما اقتصادها من أقل من مليار دولار في العام 1965 إلى نحو 300 مليار حاليا، بمعدل بطالة 2.1 بالمائة.

إذا الثروة الحقيقية لا تكمن في الموارد البشرية أو الرأسمالية أو التقنية أو الطبيعية فقط، فكلها كانت في سنغافورة قبل 1965 وبعد 1965! «السر» يكمن في جودة وكفاءة إدارة السياسة الاقتصادية. وهذا لا يعني أن سنغافورة لم تكن تعاني تحديات ومعوقات، كالأزمة الآسيوية في نهاية التسعينيات، لكن حتى تلك التحديات العاتية كانت بحاجة لاستجابة إدارية سريعة وحاسمة.

وقد يُقال إن سنغافورة دولة صغيرة المساحة وقليلة السكان يمكن ضبطها والسيطرة عليها لتنفيذ سياسات اقتصادية بكفاءة، لكن ذلك القول لا يصمد للكثير من الأمثلة. لن أحدثكم عن اليابان الخالية من الموارد الطبيعية تقريبا، بل لنأخذ الصين مثلا، أكبر بلدان العالم سكانا، تمتد على رقعة جغرافية تتجاوز 9.4 مليون كيلو متر مربع.

ما الذي حدث في الصين لتتحول من الفقر إلى الغنى؟ الصين لم تغير شيئا، ولا حتى نظامها الشيوعي أو مركزية المكتب السياسي! كل ما فعلته حقيقة لإطلاق ماردها الهائل أنها أصلحت سياساتها الاقتصادية قولا وفعلا، فأصبحت أكثر الاقتصادات الكبيرة انفتاحا، فانتقلت -بنكهة صينية-لاقتصاد السوق، مما جعل اقتصاد الصين يصعد صعودا خارقا، فحققت «معجزة» اقتصادية في سنوات قصيرة في عمر الأمم؛ إذ نما اقتصادها بمعدل سنوي «خرافي» متوسطه 9.5 بالمائة منذ بداية الإصلاحات في العام 1978 حتى العام 2013، وتضاعف بذلك حجم اقتصادها (الناتج المحلي الإجمالي) عشرة أضعاف، وارتفع متوسط الأجور ستة أضعاف.

وعلى النقيض فثمة بلدان تصاحبت مع الثراء دهورا ثم نكصت إلى الفقر، خذ مثلا اليونان. ففي الستينيات كانت اليونان الأعلى نموا بين دول أوروبا قاطبة! ونما اقتصاد اليونان إيجابيا حتى حلول الأزمة المالية العالمية عندما بدأت تعاني تراكم الديون وارتفاع تكلفتها وتنامي العجز في الميزانية العامة للدولة. تاريخيا كانت اليونان من أثرى دول أوروبا وأكثرها نموا، فما الذي حدث؟ في أكتوبر 2009 اعترفت حكومة اليونان أنها كانت «تُحَجم» قيمة العجز المالي في ميزانيتها، فامتنعت البنوك عن اقراضها! هل أفلست اليونان «المحتالة»؟ لا، فقد مَدَّ لها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد «حبل انقاذ» قوامه 240 مليار يورو، مقابل أن تنضبط ماليا، إذ أن سبب أزمة اليونان أن السياسة المالية لحكومتها تقوم على «السفاهة»، نعم السفاهة؛ كانت تقترض لتنفق ببذخ لم تكن تقوم بالجهد الكافي لجمع المورد الأساس لخزينتها (الضرائب) بفاعلية، فكان التهرب الضريبي منتشرا بين الأفراد وطريقة حياة للعديد من منشآت الأعمال! فمثلا أنفقت تسعة أضعاف ما أنفقته أستراليا على الألعاب الأولمبية، والفارق بينهما أربع سنوات فقط وثراء أستراليا وفقر اليونان، كما أن حكومة اليونان كانت تقترض لتدفع لموظفيها ولبرامج تقاعدهم.

عمليا، الدول لا تفلس بل تفقد القدرة على إدارة اقتصادها؛ فكما تبين الأمثلة السابقة، فدول فقيرة انتقلت للغنى كما هو حال سنغافورة، ودول كانت لقرون أغنى دول الأرض ثم انتقلت للفقر بفعل سياسات لتعاود وتسترجع مكانتها بفعل سياسات كذلك كما هو الحال مع الصين، ودول كانت مركز الثراء والتحضر لقرون في الماضي، وأثبتت حديثا قدرتها على النمو بفعل سياسات اتبعتها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تخلت عن كل ذلك وآثرت العيش على «قفا» شركائها في الاتحاد الأوروبي، فقصدت الدائنين وأهملت المدينين، فتورطت وتورط العالم معها، كما هو حال اليونان.

بلدنا، ثرواته متعددة، من أبعد بلدان الدنيا عن أن يُفلس. ليس فقط لاحتياطاته النقدية ولمخزونه من النفط ولثروات مواطنيه وفوق كل هذا ما أكرم الله سبحانه بلادنا به من احتضان مكة المكرمة والمدينة المنورة، أقدس البقاع قاطبة، ففيهما منافع اقتصادية منذ الأزل. وفي ظني أن حديثنا لا ينبغي أن يتمحور حول الإفلاس، بل عن النمو والازدهار وبحبوحة العيش، هذا ما يعنيه أن يكون لنا رؤية مستقبلية، وإلا فما مسوغ وجود رؤية إن لم تجلب الرضا والرفاه ورغد العيش للمواطن؟!

لستُ قلقا أن نُفلس، بل ألا نستطيع جعل اقتصادنا ينمو بالقدر الكافي، فتفشل الرؤية ونتقهقر اقتصاديا أمام الدول المنافسة وتلك المتربصة. إذ تشير حساباتي إلى أن علينا تحقيق نمو معدله 7.1 بالمائة سنويا بين الآن والعام 2030 حتى نبلغ هدف الرؤية بأن نصبح ضمن أكبر 15 اقتصادا في العالم، إذا فاقتصادنا، ووطننا قبل اقتصادنا، بحاجة لمن يشمر عن ساعده، ومن يعلي هممنا، فكما اقتسم آباؤنا التمرة، سنكون سويا لنعبر الصعاب، وننعم سويا بالمكاسب.

نقلا عن اليوم