الاحتلال بالديون

18/10/2016 28
د.عبد الفتاح صلاح

لا حديث للمصريين في هذه الأيام إلا عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات بسبب ارتفاع سعر الدولار؛ والمعنى الأدق هو انهيار الجنيه أمام الدولار بصورة غير مسبوقة وفي خلال شهور معدودة؛ وتكمن المشكلة في أن مصر دولة مستوردة تستورد حوالي 80% من استهلاكها وتنتج 20% فقط، وتتفاقم المشكلة كلما انخفضت عائدات مصر الدولارية من التصدير والسياحة ودخل القناة وتحويلات العاملين بالخارج.

وفي محاولة للسيطرة على سعر الدولار لتقليل الفارق بين سعره الرسمي المعلن من البنك المركزي وسعره في السوق الموازي – والذي تجاوز أربعة جنيهات – وذلك بهدف كبح جماح ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتخفيف الأعباء المعيشية عن المواطنين تم استنزاف الاحتياطي الدولاري، وتعالت أصوات كثير من الاقتصاديين بأنه لا مفر من الحصول على قرض صندوق النقد الدولي؛ وهذا هو بيت القصيد لأنه للحصول على القرض يجب الالتزام بتنفيذ شروط صندوق النقد المعتادة من تخفيض الدعم تمهيداً لإلغائه، وزيادة الضرائب، وتقليص الوظائف الحكومية، وخفض أجور العاملين، وتحرير سعر الصرف " تعويم الجنيه " ..... وغير ذلك من الإملاءات، ولأن هناك حساسية من أن فرض صندوق النقد لشروطه على الحكومة يعد تدخلاً في سيادة الدولة فلا مانع من استخدام مسمى خطة الإصلاح الاقتصادي.

حقيقة يجب إيضاحها 

هناك اقتصاديين قبلي لهم فضل السبق في تناول موضوع قروض صندوق النقد الدولي، ومعظم هذه المقالات إن لم يكن كلها تصف قروض صندوق النقد بالاستعمار الاقتصادي والاستعمار المالي ونحو ذلك، وهنا يجب إيضاح حقيقة أنه قد جانبهم الصواب عندما استخدموا مصطلح الاستعمار الذي يعبر بالأساس عن عمارة الأرض واستثمار خيراتها التي سخرها الله للبشر جميعاً بالعدل، وبما يعود بالنفع على الفرد والمجتمع والبشرية جمعاء، ومصطلح العمارة أعم وأشمل من مفهوم التنمية، وهذا المعنى في قوله تعالى: " وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا " هود61. 

انطلاقاً من هذه الحقيقة المبدئية استخدمت مصطلح الاحتلال والذي يشير بمعناه الاقتصادي إلي استيلاء دولة ما على موارد دولة أخرى بطريقة غير مشروعة، والطريقة غير المشروعة تتمثل في إغراق الدولة في الديون. 

التعرف على المؤسسات النقدية الدولية 

يوجد في العالم ثلاث مؤسسات تحكم العلاقات الاقتصادية الدولية؛ منهم مؤسستان رسميتان هما صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإسكان والتعمير، ومجموعة غير رسمية هي نادي باريس، وفي السطور التالية سيتم التعرف على كل مؤسسة من تلك المؤسسات من حيث نشأتها، والدور المنوط بها، وأهدافها، ومجال اختصاصها. 

•صندوق النقد الدولي  

هو وكالة متخصصة من منظومة بريتون وودز التابعة للأمم المتحدة، أنشئ بموجب معاهدة دولية في عام 1944 مع نهاية الحرب العالمية الثانية في سياق السعي لبناء نظام اقتصادي دولي جديد أكثر استقراراً وتجنباً لأخطاء العقود السابقة التي أسفرت عن خسائر فادحة، ويقع مقر الصندوق في واشنطن العاصمة، ويديره أعضاؤه الذين يشملون جميع بلدان العالم تقريباً بعددهم البالغ 188 بلداً.

وصندوق النقد الدولي هو المؤسسة المركزية في النظام النقدي الدولي أي نظام المدفوعات الدولية وأسعار صرف العملات الذي يسمح بإجراء المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة، ويستهدف الصندوق منع وقوع الأزمات في النظام عن طريق تشجيع البلدان المختلفة على اعتماد سياسات اقتصادية سليمة، ويحق للأعضاء فيه الاستفادة من موارده في التمويل المؤقت لمعالجة ما يتعرضون له من مشكلات في ميزان المدفوعات، ولا علاقة له بتمويل المشروعات.

وتتضمن الأهداف القانونية لصندوق النقد الدولي تيسير التوسع والنمو المتوازن في التجارة الدولية، وتحقيق استقرار أسعار الصرف، وتجنب التخفيض التنافسي لقيم العملات، وإجراء تصحيح منظم لاختلالات موازين المدفوعات التي تتعرض لها البلدان، وذلك من خلال:

1- مراقبة التطورات والسياسات الاقتصادية والمالية في البلدان الأعضاء وعلى المستوى العالمي، وتقديم المشورة بشأن السياسات لأعضائه استناداً إلى الخبرة التي اكتسبها مند تأسيسه.

2- إقراض البلدان الأعضاء التي تمر بمشكلات في موازين مدفوعاتها، ليس فقط لإمدادها التمويل المؤقت وإنما أيضاً لدعم سياسات الإصلاح الرامية إلى حل مشكلاتها الأساسية.

3- تقديم المساعدة الفنية والتدريب في مجالات خبرة الصندوق إلى حكومات البلدان الأعضاء وبنوكها المركزية.

ويركز الصندوق أساساً على السياسات الاقتصادية الكلية للبلدان أي السياسات المتعلقة بميزان الحكومة، وإدارة النقد والائتمان وسعر الصرف وسياسات القطاع المالي بما في ذلك تنظيم البنوك والمؤسسات المالية الأخرى والرقابة عليها، إضافة إلى الاهتمام بالسياسات الهيكلية لسوق العمل التي تؤثر على سلوك التوظيف والأجور، ويقدم الصندوق المشورة لكل بلد عضو حول كيفية تحسين سياستها في هذه المجالات.

•البنك الدولي  

هو أحد الوكالات المتخصصة في الأمم المتحدة التي تعنى بالتنمية، واتفق على إنشائه مع صندوق النقد الدولي في المؤتمر الذي دعت إليه هيئة الأمم المتحدة في بريتون وودز بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1944، وبدأ البنك أعماله في 1946 بالمساعدة في إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ويعد الإعمار في أعقاب النزاعات موضع تركيز نشاط البنك نظراً إلى الكوارث الطبيعية والطوارئ الإنسانية، واحتياجات إعادة التأهيل اللاحقة للنزاعات والتي تؤثر على الاقتصاديات النامية والتي في مرحلة تحول، ومنذ عام 2000 والبنك يركز جهوده على تخفيف حدة الفقر كهدف موسع لجميع أعماله. 

يبلغ عدد الدول الأعضاء في البنك الدولي 185 دولة تصب مصالحها وآراؤها في مجلس المحافظين ومجلس الإدارة ومقره واشنطن، ولكي تصبح أي دولة عضواً في البنك الدولي للإنشاء والتعمير يجب أن تنضم أولاً إلى صندوق النقد الدولي ومؤسسة التنمية الدولية ومؤسسة التمويل الدولي وهيئة ضمان الاستثمار المتعدد الأطراف.

والهدف العام من البنك الدولي هو تشجيع استثمار رؤوس الأموال بغرض تعمير وتنمية الدول المنضمة إليه والتي تحتاج لمساعدته في إنشاء مشروعات ضخمة تساعد في الأجل الطويل على تنمية اقتصاد الدولة. ومساعدة البنك للأعضاء تكون بإقراض الحكومات مباشرة أو بتقديم الضمانات التي تحتاجها للاقتراض من دولة أخرى أو من السوق الدولية. لكن ممارسة البنك لأعماله أظهرت أنه كان متحيزاً في إقراضه بعض الدول وعدم إقراضه دولاً أخرى.

•نادي باريس  

هو مجموعة غير رسمية مكونة من مسؤولين ماليين مموّليين من 19 دولة تعد من أكبر الاقتصادات في العالم، وانضمت لهم مؤخراً في 24 يونيو 2014 إسرائيل لتصبح المجموعة مكونة من 20 دولة، وهى مجموعة تقدم خدمات مالية مثل إعادة جدولة الديون للدول المديونة بدلاً من إعلان إفلاسها أو تخفيف عبء الديون بتخفيض الفائدة عليها، أو إلغاء الديون بين الدول المثقلة بالديون ودائنيها. والدول المديونه غالباً ما يتم التوصية بها أو تسجيلها في النادى عن طريق صندوق النقد الدولي بعد أن تكون الحلول البديلة لتسديد ديون تلك الدول قد فشلت.

وبما أن نادي باريس عبارة عن مجموعة غير رسمية فليس هناك تاريخ تأسيس أو قوانين تشريعية، وهذا الأمر يمنح الدول الدائنة الأعضاء مرونة في مواجهة المواقف الخاصة لكل دولة مدينة تواجه صعوبات في سداد ديونها، وقد عقد أول اجتماع مع دولة مدينة عام 1956 عندما وافقت الأرجنتين على الاجتماع بدائنيها العموميين في باريس.

يجتمع أعضاء النادي " الدول الدائنة " من 10 إلى 11مرة في العام، وتعقد هذه الاجتماعات في باريس في مقر وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، ويرأسها أحد كبار المسؤولين في وزارة المالية الفرنسية، وفيها يتم التفاوض أو التباحث فيما بين الدول الدائنة بشأن إيجاد حلول ملائمة للصعوبات التي تواجهها الدول المدينة في سداد ديونها، وتتفق الدول الدائنة الأعضاء في النادي على تغيير أساليب سداد الديون المستحقة لهم، كما يجتمع النادي بالدول المدينة التي تحتاج إلى دين عاجل والتي نفذت والتزمت بتنفيذ الإصلاحات اللازمة لتحسين وضعها الاقتصادي والمالي، وهذا يعني من الناحية العملية ضرورة أن يكون للدولة المدينة برنامج مع صندوق النقد الدولي مدعوم باتفاق مشروط.

بين الإفراط في التفاؤل ونظرية المؤامرة

ما تقدم من تعريف بالمؤسسات النقدية الثلاث التي تحكم العلاقات الاقتصادية الدولية من حيث تأسيسها، وأهدافها، والأطر القانونية المنظمة لاتفاقاتها، وآليات عملها، مستمد من المعلومات المعلنة عن هذه المؤسسات، وهي توضح بما لا يدع مجال للشك أن صندوق النقد الدولي هو أقوى مؤسسة مالية في النظام النقدي الدولي، وتتعاظم هذه القوة باشتراط البنك الدولي ونادي باريس على الدولة التي تريد التعامل معهما أن تكون عضواً في صندوق النقد. 

ونتيجة لذلك يفرط البعض في التفاؤل ويصور صندوق النقد على أنه المنقذ أو طوق النجاة الأخير للدول المتعثرة مالياً، والبعض الآخر يفرط في نظرية المؤامرة ويرى أن صندوق النقد هو أحدث أسلحة الدول الغنية لنهب ثروات الدول الفقيرة.

وللوقوف على الحقيقة علينا معرفة الآثار التي حدثت في عشرات الدول التي وقعت على اتفاقات قروض مع صندوق النقد الدولي مثل: الأرجنتين، والبرازيل، واليونان، وأوكرانيا، وبيرو، وغانا، والمكسيك، وزامبيا، وشيلي، وأثيوبيا، وكينيا ...... وغيرها من الدول، وسأكتفي بالبرازيل واليونان كنموذج لأن الآثار متشابهة في كل تلك الدول، وذلك لأن صندوق النقد لديه روشتة واحدة يقدمها لجميع الدول التي تحتاج لقروض.

•البرازيل

بسبب القروض ارتفع الدين الخارجي من 150 مليار إلى 250 مليار دولار، وأدى ذلك إلى نقل ضخم للثروة الوطنية خارج البلاد خلال 4 سنوات ما بين 1985- 1989 حيث دفعت الحكومة البرازيلية 148 مليار دولار؛ 90 مليار منها فوائد للقروض الأجنبية، وبسبب سياسات صندوق النقد هاجر 4 ملايين شخص من الريف إلى المدينة، وزادت الصدامات في صفوف الشعب البرازيلي، وأدى تدخل صندوق النقد في السياسات المالية للدولة لمعالجة العجز في الموازنة إلى خفض التغذية المدرسية للطلاب، ولمعالجة التضخم أوصى بتسريح العمال وخفض أجورهم دون اهتمام بما ينتج عن ذلك من اضطرابات وأعمال شغب.

وبسبب ارتفاع الدين الخارجي فقد العالم الثقة في الاقتصاد البرازيلي، واتجهت الحكومة نحو طرح سندات الدين الداخلي بفوائد مرتفعة لتمويل العجز في الموازنة، مما شجع المستثمرين المحليين على التخلي عن الاستثمار المنتج لصالح شراء السندات الحكومية، فارتفع الدين الداخلي بنسبة 900% لتتحمل الأجيال القادمة بأعباء هذه الديون، ولم تحقق تقدماً في الإنتاج بل تقدماً في قطاع المال وزيادة في الديون، وهكذا تستمر الدوامة.

ورغم أن الاقتصاد البرازيلي يحاول التعافي إلا أن الآثار السلبية لا تزال باقية حتى الأن، مثل مشكلة التسرب من التعليم وتردى أحوال المدارس، بالإضافة إلى انتشار الجريمة المنظمة وخاصة تجارة المخدرات، إلى جانب مشاكل الجوع والبطالة والفقر الحاد، فالمجتمع ينقسم إلى طبقتين، الأولى عبارة عن شريحة رفيعة جداً من الأغنياء غنىً فاحش والطبقة الثانية شريحة عريضة من الفقراء فقر مدقع فيما تكاد تكون الطبقة الوسطى غير موجودة على الإطلاق في مشهد صارخ للتفاوت الاقتصادي وانعدام شبه كامل للعدالة الاجتماعية. 

تعبر عن ذلك أرقام الأمم المتحدة في تسعينات القرن الماضي والتي تشير إلى أن 20% من السكان يسيطرون على 80% من ثروة البلاد،ووفقاً لإحصاءات الحكومة البرازيلية فإن 1% من السكان يمتلكون نصف الدخل القومي، ونصف القوى العاملة في بلد تعداده 167 مليون شخص يحصل على حد أدنى للأجر أقل من 77 دولار في الشهر.

•اليونان

لليونان تجربة قاسية ليس مع صندوق النقد الدولي وحده، وإنما مع الترويكا وهي تحالف ثلاثي لمؤسسات اقتصادية دولية هي: المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، وقد مرت اليونان بثلاث خطط لانقاذ اقتصادها من الإفلاس، وأضافت صفقة الدين الثالثة التي وقعت مؤخراً بين اليونان والترويكا 98 مليار دولار للدين اليوناني، رافعةً بهذا المبلغ إجمالي الدين العام إلى أكثر من 400 مليار دولار، وجرى تخصيص كل الـ 98 مليار دولار هذه لسداد الدين وإعادة رسملة البنوك اليونانية، وسيتم إنتاج الفائض الأولي الذي سيسدد الفوائد وأصل الدين إما من خلال زيادة الإنتاج اليوناني بشكل أكبر، أو من خلال التقشف وتقليص النفقات ورفع الضرائب بشكل كبير.

والتقشف الذي تريده مجموعة اليورو وصندوق النقد الدولي من اليونان يعني وقف الإنفاق الحكومي على قطاع الخدمات: التعليم والصحة والثقافة، وتسريح العاملين في القطاع العام، وخفص الحد الأدنى للأجور، وتخفيض المعاشات، ورفع الضرائب على الممتلكات، وخصخصة كل الخدمات من مياه وكهرباء، واتصالات، وحتى خدمات المطار، ولم يتوقف المصرفيون عند ذلك فطالبوا بخصخصة وسائل الإعلام. 

وللتعرف على المعاملة القاسية التي تعاملت بها الترويكا الأوروبية مع اليونان وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي؛ يكفي أن نعرض لبعض ما جاء في " مذكرة التفاهم " بين الترويكا واليونان، فمذكرة التفاهم تشترط على اليونان إعادة هيكلة الضرائب بشكل كامل، وتحديد النفقات في الميزانية الجديدة، وسيقوم ممثلوا الترويكا بمراقبة التزام وتقيد اليونان بتنفيذ هذه الاشتراطات، وتتضمن المذكرة صراحةً أن المؤسسات السياسية اليونانية لن تتخذ أي إجراء، ولن تقر أي تشريع بغض النظر عن حجمه، من دون موافقة مسبقة من الترويكا. 

وتمنح المذكرة صلاحيات تسمح للترويكا بتعيين " مستشارين مستقلين " لمجلس البنك اليوناني، وسوف يتم تنحية العديد من أعضاء مجلس البنك القدامى، وهو ما يعني من الناحية العملية أن مستشاري الترويكا سيقومون بإدارة البنك اليوناني من الآن فصاعداً، وطبقاً للمذكرة يتولى البنك الدولي إعادة هيكلة نظام الرعاية الاجتماعية في اليونان، بالإضافة إلى إنشاء نظام شبكة حماية اجتماعية جديدة  .  

فإذا كانت مذكرة التفاهم بشأن خطة الاصلاح الاقتصادي المقدمة من دولة متعثرة اقتصادياً، والتي بناء عليها تأتي الموافقة النهائية للمؤسسات النقدية الدولية بمنح قروض لتلك الدولة بهذا المضمون وبهذه الشروط، فماذا تعني الإدارة المباشرة إذاً ؟!.

قرض صندوق النقد الدولي لمصر

في الحقيقة أن لمصر تجربة مريرة مع الاقتراض سابقة على تأسيس صندوق النقد الدولي؛ ولها أيضاً تجربة مؤلمة مع الاقتراض من صندوق النقد، والسطور التالية تتضمن موجز غير مخل عن هذه التجارب، ليتم الاستفادة منها في منع تكرار تجرع مراراتها ومعاناة آلامها.

•الخديو إسماعيل وصندوق الدين  

سنة 1863 عندما تولى إسماعيل باشا كان على البلاد من الدين العام أحد عشر مليون ومائة وستون ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم إذا قورن بميزانية مصر في ذلك العصر. وفي       " خطبة توليه العرش " ندد إسماعيل بإسراف سلفه سعيد، وتعهد بأن يتبع في إدارته للبلاد قواعد الاقتصاد والتدبير فقال: " أن أساس الإدارة هو النظام والاقتصاد في المالية، وسأبذل كل جهدي في اتباع قواعد النظام والاقتصاد، وقد عزمت أن أرتب لنفسي مخصصات محدودة، لا أتجاوزها أبداً، وسأعمل على إبطال السخرة التي اعتمدت عليها الحكومة في أعمالها، وآمل أن تؤدى حرية التجارة إلي نشر الرفاهية والرخاء بين جميع طبقات الشعب، وسأعنى كل العناية بتوطيد دعائم العدالة "، ولم تمض سنة على هذه الخطبة حتى تم نقضها، فتوالت القروض متلاحقة بعضها إثر بعض، وأتخذها عادة تكاد تكون سنوية.

سنة 1864استدان القرض الأول من بيت فرولينج وجوشن Fruhling and Goschen الإنجليزي، وقيمته 5.704.200 جنيه إنجليزي، وقد رهنت ضرائب الأطيان بمديريات الدقهلية والشرقية والبحيرة لسداد أقساطه. ولم ينفق إسماعيل باشا شيئاً يذكر من مبلغ هذا القرض على مرافق البلاد العامة، بل أنفق معظمه على توسيع دائرة أطيانه وأملاكه. 

سنة 1865 وبنهاية الحرب الأهلية الأمريكية فُتحت الأسواق أمام القطن الأمريكي، فتراجعت أسعار القطن المصري إلى مستواها القديم، وقد حل الضيق بالفلاحين والملاك، ولم يدروا كيف يسددون ديونهم وقد عرفت وقتها " بأزمة القطن "، فقرر إسماعيل باشا أن تتدخل الحكومة في هذه الأزمة، فسددت 1,400,000 جنيه ديون الأهليين للدائنين والمرابين، علي أن ترجع بها علي المدينين مقسطة علي سبع سنوات بفائدة 7%. واقترض من بنك الأنجلو 3,387,300 جنيه، ورهن في مقابله 365,000 فدان من أملاكه.

سنة 1866 استدان من بنك أوبنهايم 3,000,000 جنيه، ورهن في مقابله إيرادات السكك الحديدية، وقد جرت المفاوضات بشأن هذا القرض أثناء مفاوضات القرض السابق من بنك الأنجلو، لكن المفاوضات بشأنه طالت ولم يستطع إسماعيل باشا الصبر فاقترض من بنك الأنجلو، فلما اكتملت المفاوضات الخاصة بقرض بنك أوبنهايم أتم صفقته أيضاً، كما استدان في تلك السنة أيضاً دينين آخرين من " الديون السائرة "  وهي ديون من مرابين أجانب مقيمين في مصر وتتم بموجب سندات تحرر على الخزانة وعرفت بالديون السائرة لأنها لم تكن تسدد وإنما تظل بفوائدها المركبة.

سنة 1867 اقترض إسماعيل باشا قرضاً جديداً قيمته 2,800,000 جنيه، ولم يعرف سبب ظاهر لهذا القرض، واختلفت الآراء في تعليله، ولكن التعليل الصحيح أن الخديوي علاوة علي القروض السابقة كان يستدين ديوناً سائرة من المرابين الأجانب المقيمين في مصر، ولم يكن لهذه الديون حساب ظاهر ولا حد معلوم، وكل ما عرف عنها أنها كانت ذات فوائد مرتفعة جداً، وفي ذات الوقت كان هناك عدد من المشاريع جاري العمل فيها وكان يمكن تأجيلها مثل: تجديد حديقة الأزبكية، وبناء دار الأوبرا، ومضمار سباق الخيل، وبناء قصور عابدين والزعفران والقبة والجيزة والقصر العالي وسراي مصطفي باشا برمل الإسكندرية، وكل هذه المباني كان ينفق عليها من الديون السائرة، لأن ميزانية الحكومة ما كانت تسمح بإقامتها.

كما كان لإنفاقه بإسراف لملايين الجنيهات أثناء حضوره المعرض العام بباريس ليظهر بمظهر العظمة ويجتذب ثقة البيوت المالية الأجنبية لتقرضه من جديد، وكان قد أنفق جانب من هذه الملايين في الرشاوي والهدايا التي قدمها في الآستانة ليحصل علي لقب " خديوي "، وقد نال الفرمان الذي منحه هذا اللقب في 8 يونيه سنة 1867، وبسبب هذا الإسراف بلغت الديون السائرة في ذلك الحين نحو عشرة ملايين جنيه، وهو مبلغ باهظ يثقل كاهل الخزانة، وفوائده تبتلع جزءاً كبيراً من الإيراد، فتذرع إسماعيل باشا إلي عقد القرض برغبته في سداد فوائد هذه الديون، وتحويل جميع الديون السائرة إلي دين ثابت في الميزانية.

سنة 1868 وبسبب الإسراف في الإنفاق خلت الخزانة الحكومية من المال، ولجأ الخديوي إلي الاقتراض مرة أخرى من بنك أوبنهايم، واقترض هذه المرة 11,890,000 جنيه، دخل خزانة الحكومة 7,195,384 جنيه، ولسداد الأقساط السنوية لهذا القرض تم تخصيص إيراد الجمارك وعوائد الكباري وإيراد الملح ومصايد الأسماك، وقدر دخل هذه الموارد بمليون جنيه في السنة، وكان من ضمن شروط هذا القرض ألا يستدين الخديوي لمدة خمس سنوات. 

ومن هذا القرض أنفق النفقات الباهظة علي حفلات افتتاح قناة السويس سنة 1869، وقد بلغت مليوناً ونصف مليون جنيه تقريباً. لقد أنسى إبهار حفلات افتتاح القناة الناس لبعض الوقت أخطار الحالة المالية، ولكن بمجرد انطفاء شعلة الحماسة التي أثارتها، أدرك الناس أن نفقات هذه الحفلات لم تعد على البلاد بأي فائدة، ولكنها على العكس أفرغت الخزانة وأربكت وزارة المالية. أما الخديوي فقد زادته حفلات القناة غروراً وإمعاناً في عدم التبصر، ولم يفطن إلي الأخطار التي استهدفت لها البلاد، فاستمر ينحدر في طريق الاستدانة.

سنة 1869 كان الخديوي مقيداً بعدم الاقتراض طبقاً لشروط قرض سنة 1868، ومن جهة أخرى لفتت القروض وضخامتها أنظار الباب العالي، فحظر علي الخديوي إسماعيل بمقتضى فرمان أن يقترض إلا بإذنه. 

سنة 1870 لم يجد إسماعيل الذي كان يريد الاقتراض بأية وسيلة بداً من أن يعقد قرضاً لحسابه الخاص من البنك الفرنساوي المصري بقيمة 7,142,860 جنيه بفائدة 7% يسدد على 20 سنة، وذلك بضمان أطيانه الخاصة، وبعد استبعاد السمسرة والعمولة دخل خزائن الخديوي 5,000,000 جنيه فقط. 

سنة 1871 نتيجة لنشوب الحرب بين فرنسا وألمانيا سنة 1870 اضطربت الأسواق في أوروبا، وقبضت البيوت المالية يدها عن الإقراض، وكان الخديوي في حاجة إلي المال، فعمل وزير ماليته إلي زيادة الضرائب، ولكنها لم تف بطلباته، فأبتدع إسماعيل باشا المفتش طريقة تعد بمنزلة قرض إجباري يجئ من الأهالي، أو ضريبة جديدة تفرض علي أطيانهم وصدر بها القانون المشهور بلائحة المقابلة في أغسطس 1871.

يقضى هذا القانون بأنه إذا دفع ملاك الأطيان الضرائب المربوطة على أطيانهم لمدة ست سنوات مقدما تعفى الحكومة أطيانهم على الدوام من نصف المربوط عليها، على أن تخصص المبالغ المدفوعة من المقابلة لسداد ديون الحكومة. وقد استطاعت الحكومة أن تجنى من هذه الضريبة ثلاثة عشر مليون جنيه ونصف لغاية سنة 1879. 

سنة 1872 كان الخديوي ينتظر بفارغ الصبر انتهاء سنوات حظر الاقتراض الخمس المشروطة عليه من بنك أوبنهايم في قرض سنة 1868، وسعى جهده أيضاً في الآستانة وبذل فيها الأموال الطائله من الرشاوي والهدايا ليلغي فرمان سنة 1869 ويحصل على فرمان جديد  يبيح له الاقتراض من غير حاجة إلي إذن الحكومة التركية فناله في سنة 1872.

وبمجرد أن تحرر الخديوي من هذا القيد، عقد قرضاً جديداً من بيت أوبنهايم المالي قدره 32,000,000 جنيه، وهو أكبر القروض من جهة القيمة وأسوأها من جهة الشروط، وقد دعاه الماليون" القرض الكبير"، دخل الخزانة منه 20,740,077 جنيه بعد استبعاد النفقات والخصم والسمسرة ، وكانت حجته في هذا القرض أنه اعتزم سداد الديون السائرة، ولكنه في الواقع لم يخصص شيئاً منه لهذه الغاية، وبقيت الديون السائرة كما كانت. وقد رهن الخديوي إسماعيل لسداد هذا الدين ما بقي من موارد الإيراد التي لم تخصص كلها أو بعضها للقروض السابقة. 

سنة 1874 احتاج الخديوي إلي قرض فأبتدع له إسماعيل باشا المفتش وسيله جديدة يقترض بها من الأهالي ديناً سمي " دين الرزنامة " والرزنامة نموذج مبكر لهيئة المعاشات، حيث تودع فيها رؤوس أموال للمستحقين مقابل دفع معاشات لهم، وبلغت مساهمة الأهالي في سندات هذا القرض الإجباري 3,337,000 جنيه، لم يدخل الخزانة منها سوي 1.878.000 جنيه.

سنة 1875 تبين من فحص مالية مصر أن حجم المبالغ التي تحصلت عليها ميزانية مصر عن المدة الواقعة بين سنة 1864 وسنة 1875 بلغت 94,21,400 جنيه.

سنة 1876 استمرت الضائقة المالية في طريقها، وأعوز الخزانة المصرية المال اللازم لأداء أقساط الديون، وأخيراً عجزت عن الوفاء، فأصدر الخديوي مرسوماً في 6 أبريل 1876 بتأجيل دفع السندات والأقساط المستحقة علي الحكومة في أبريل ومايو ثلاثة أشهر ولم يكن تحديد هذه الثلاثة أشهر إلا للمحافظة على الظواهر، وكان الغرض هو التأجيل إلي ما شاء الله.

وأعلن هذا المرسوم في بورصة الإسكندرية يوم 8 أبريل، فكان هذا إيذاناً بالتوقف عن الدفع، أو بعبارة أخرى بالإفلاس، ولما ذاع هذا المرسوم سرى السخط والذعر في الأسواق المالية الأوروبية، وأقلق أصحاب الديون من البنوك الأوروبية والمرابين على ديونهم، فلجأوا إلى حكوماتهم للقيام بالإجراءات اللازمة تجاه الحكومة المصرية لسداد الديون.

تحت ضغط الدول الدائنة اضطر الخديوي إسماعيل وبالتنسيق مع حكوماتهم إلى استقدام بعثة كييف من بريطانيا للمعاونة في حل الأزمة المالية، فدفع ذلك فرنسا إلى إرسال خبير يمثلها هو المسيو فييه للمعاونة أيضاً حتى لا تنفرد انجلترا بالأمر، واسترضاء للدائنين طلب الخديوي منهم وضع النظام الذي يرتضونة، فقدم الجانب الفرنسي مشروع إنشاء صندوق الدين وتوحيد الديون، فصدر مرسوم بإنشاء الصندوق في 2 مايو 1876، وتحددت مهمته بأن يكون خزانة فرعية للخزانة العامة تتولى استلام المبالغ المخصصة للديون من المصالح الحكومية مباشرة.

وكلما زادت ضغوط الدول الدائنة زادت مظاهر التدخل، ففي 11 مايو 1876 أصدر الخديوي مرسوماً بإنشاء مجلس أعلى للمالية من عشرة أعضاء نصفهم من الأجانب، وفي 18 نوفمبر من نفس العام أُنشئت المراقبة الثنائية على المالية المصرية لانجليزي وفرنسي، واقترح الرقيبان تشكيل لجنة عليا أوروبية للتحقيق في أسباب العجز في أبواب الإيرادت، وتم إنشاء اللجنة في 27 يناير 1878، ثم صدر مرسوم آخر في 30 مارس 1878 بتعميم اختصاص اللجنة ليشمل المالية بكل عناصرها، وفي النهاية ضغطت الحكومات الأوروبية على السلطان العثماني لعزل الخديوي إسماعيل، وبالفعل أصدر السلطان فرمان العزل في يونيو 1879، وقد بلغت ديون مصر عند عزل الخديوي إسماعيل 126 مليون و 354 ألف و 360 جنيهاً  .

تجربة حكومات مصر مع صندوق النقد الدولي

تعاملت مصر مع صندوق النقد الدولي ثلاث مرات سابقة، وتعتبر تجربة مصر مع صندوق النقد الدولي غير مريحة بالنسبة لكثير من المراقبين.

قرض 1977- 1978 وهو أول اتفاق لمصر مع صندوق النقد للحصول علي قرض بقيمة 185.7 مليون دولار من أجل حل مشكلة المدفوعات الخارجية المتأخرة وزيادة التضخم.

وبعد الاتفاق علي القرض والموافقة علي شروط الصندوق أعلن د. عبد المنعم القيسوني رئيس المجموعة الاقتصادية للحكومة في 17 يناير 1977 أمام مجلس الشعب عن قيام الحكومة باتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية وصفها '' بالضرورية والحاسمة ''، وكانت نتيجتها زيادة في أسعار السلع الأساسية مثل: الخبز والبنزين والبوتجاز والسكر والأرز وغيرها من السلع بزيادة تتراوح من 30 إلي 50 %.

أشعلت هذه القرارات فتيل الغضب في الشارع المصري وخرج المواطنون في جميع المحافظات علي مدار يومي 18 و 19 يناير في مظاهرات عارمة تخللها عمليات تخريب للممتلكات العامة، وهو ما دفع الرئيس السادات إلي فرض حالة حظر التجول وأمر الجيش بالنزول إلي الشارع للسيطرة علي التظاهرات، وسرعان ما تراجعت السلطة السياسية عن هذه القرارات لتفادي مزيد من التوتر والمظاهرات الشعبية في البلاد.

قرض 1991- 1993 اقترضت حكومة د. عاطف صدقي وقتها 375.2 مليون دولار لسد عجز الميزان التجاري، وهو القرض الذي فتح الباب أمام " خصخصة " شركات القطاع العام الناجحة امتثالاً لشروط الصندوق، أي تحويل ملكية مؤسسات الدولة العامة إلى القطاع الخاص.

قرض 1996- 1998 وهي المرة الثالثة التي تلجأ فيها مصر للاقتراض من صندوق النقد حيث طلبت قرضاً بقيمة 434.4 مليون دولار، ولم تسحب مصر قيمة هذا القرض واعتبر لاغياً، ولكنه شكل إطاراً سمح لمصر بالحصول علي إلغاء لـ 50% من ديونها المستحقة للدول الأعضاء في نادي باريس.

ومنذ ذلك الحين لم تستعن مصر بأى قروض من صندوق النقد، واقتصر دور الصندوق على تقديم المشاورات والمساعدات الفنية والتدريب، ويشمل ذلك صياغة التشريعات الإقتصادية والمالية ومراجعتها، والمشورة الفنية بشأن السياسات والإدارة الضريبية والجمركية، وإدارة الدين الخارجي والداخلي، ويقدم الصندوق المساعدة الفنية عبر إيفاد البعثات، وإرسال المتخصصين في مهمات قصيرة الأجل، وتشمل هذه المساعدة مجالات عديدة أهمها صياغة السياسات الإقتصادية الكلية وإدارتها، أنشطة البنوك والسياسات النقدية والنظام المالي. 

حكومة شريف إسماعيل عقدت الحكومة المصرية عدة جولات من المفاوضات مع بعثة صندوق النقد الدولي، وفي ختام زيارة بعثة الصندوق الأخيرة إلى القاهرة في الفترة من 30 يوليو إلى 11 أغسطس 2016 أصدر السيد " كريس جارفيس " رئيس البعثة بيان صحفي، يتضمن ما انتهت إليه المفاوضات، والشروط المطلوب من الحكومة تنفيذها قبل الحصول على القرض. وللتخفيف من وقع كلمة الشروط لا مانع من أن تكون الصيغة " برنامج الإصلاح الحكومي " المقبول والموافق عليه من الصندوق بالطبع، وفيما يلي ملخص للبيان الصحفي:

]يسرني أن أعلن أن الحكومة المصرية والبنك المركزي المصري وفريق صندوق النقد الدولي توصلوا إلى اتفاق على مستوى الخبراء يتيح لمصر قرض قيمته 12 مليار دولار أمريكي لدعم برنامج الحكومة للإصلاح الاقتصادي من خلال " تسهيل الصندوق الممدد " الذي يغطي ثلاث سنوات. ويرتهن هذا الاتفاق بموافقة المجلس التنفيذي للصندوق، والذي يُتوقع أن ينظر في طلب مصر خلال الأسابيع القادمة.

وستكون ركيزة سياسة المالية العامة للحكومة هي وضع الدين العام على مسار نزولي على مدار فترة البرنامج، ومن المتوقع أن ينخفض دين الحكومة العامة من 98% من إجمالي الناتج المحلي في 2015/2016 إلى 88% من إجمالي الناتج المحلي في 2018/2019. وتستهدف السياسة المالية خفض عجز الموازنة من خلال زيادة الإيرادات وترشيد الإنفاق، وستقوم الحكومة بتطبيق قانون ضريبة القيمة المضافة، وتستمر في تنفيذ البرنامج الذي بدأته في 2014 لترشيد دعم الطاقة. وستعمل الحكومة على تحقيق تقدم في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية للمساعدة في زيادة الاستثمار وتعزيز دور القطاع الخاص، وستهدف السياسة النقدية والصرف الانتقال إلى نظام مرن لسعر الصرف. 

ونحن في صندوق النقد الدولي على استعداد للشراكة مع مصر في هذا البرنامج، كما سنشجع الهيئات الدولية والبلدان الأخرى على تقديم الدعم لها. وقد تحدثنا مع زملائنا في البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي وهم مستعدون للمساعدة. وسيكون من المفيد أيضا أن يبادر شركاء مصر على المستوى الثنائى إلى دعمها في هذه الفترة الحرجة[  .

هذا وتستهدف الحكومة تمويل برنامجها الاقتصادي بنحو 21 مليار دولار على مدار 3 سنوات منهم 12 مليار من صندوق النقد الدولي، والباقي من إصدار سندات، وتمويل من البنك الدولي، ومصادر أخرى، وطرح ما بين 5 إلى 6 شركات حكومية في البورصة خلال 2016-2017؛ مع العلم بأن آخر تقييم لديون مصر في نهاية مارس 2016 أظهر أن الدين الخارجي ارتفع إلى نحو 53.4 مليار دولار، كما زاد الدين العام المحلي إلى 2.496 تريليون جنيه، وبذلك يمثل مجموع الديون نحو 98% من الناتج المحلي الإجمالي.

المخاوف حقيقية وليست أوهام 

عندما تنفي وزارة المالية وجود أي شروط من صندوق النقد الدولي بشأن منح مصر قرض بقيمة 12 مليار دولار، مؤكدة أن المشاورات التي تجري مع الصندوق لم تخرج عن برنامج الإصلاح المقرر مسبقاً من الحكومة، فإن ذلك لا ينفي وجود شروط للصندوق، ولا يلغي المخاوف الحقيقية المترتبة على القرض ومن أهمها المخاوف من التدخل في السياسات الاقتصادية الداخلية؛ وهو ما يعني المساس بسيادة الدولة. لأن التشاور المبدئي وجولات المفاوضات مع فريق خبراء الصندوق تدور كلها حول إدخال تعديلات على برنامج الإصلاح المقدم من الحكومة ليوافق مرئياتهم، وبدون ذلك لن يقدم الخبراء تقرير إلى المجلس التنفيذي للمناقشة واتخاذ القرار. وهو ما يعني وجود إملاءات بالشروط ولكن بطريقة غير مباشرة.

وقد وصفت المسؤولة السابقة في برنامج الأمم المتحدة للتنمية " إيزابيل غرامبرغ " السياسات التي يفرضها الصندوق على الدول الأعضاء لا سيما النامية منها، والتي تؤدي في أكثر الأحيان إلى إرتفاع لمعدل البطالة، وإنخفاض في القدرة الشرائية، وتبعية خاصة غذائية، ويضاف إليها تفكك للأنظمة الإنتاجية في العديد من الدول، وصفت هذه الأمور بالجريمة، معتبرة ان صندوق النقد الدولي ليس مشاركاً بها فقط، بل إنه المايسترو الذي يدير نظاماً شاملاً يسحب الأموال من الفقراء ليمول إنفاق أقلية غنية من الناس، والنتيجة هي إنخفاض الدخل الوطني في البلدان النامية إلى حده الأدنى جراء تطبيق سياسات الصندوق، بالمقابل يزداد الدخل الوطني في البلدان الصناعية إلى حده الأقصى  .

نفس الوصف تقريباً تحدث به " مارك بلَيث " أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة براون الأمريكية العريقة؛ في دورية " فورين أفيرز "، الصادرة عن " مجلس العلاقات الخارجية " الأميركي، رداً على الكثير من وسائل الإعلام والاقتصاديين الذين يرجعون سبب أزمة اليونان إلى الإنفاق غير الرشيد للحكومة على نظام التأمينات الصحية والتقاعد، وفي معرض توضيحه لحقيقة أن اليونان حكومة وشعباً لا يتحملون الجزء الأكبر من وزر الأزمة، يقول: " مارك بلَيث " أن البنوك الأوروبية مع بداية نظام عملة اليورو عام 1999 تَوسعت في إقراض اليونان؛ بصورة غير رشيدة سعياً للربح. ومنذ بدء خطط الإنقاذ للاقتصاد اليوناني في العام 2010، خصص الأوروبيون وصندوق النقد الدولي 230 مليار دولار لهذا الأمر؛ ولكن بحسب الحسابات فإن 90 % من الأموال لم تصل إلى اليونان، بل وصلها 27 ملياراً فقط، فيما ذهب الباقي في الواقع للدائنين، وخصوصاً البنوك الألمانية والفرنسية لسداد الديون وفوائدها. وأن أي شطب للديون، كان ضمن صفقات إقراض جديدة، تتضمن المزيد من الأرباح للبنوك والدائنين، ويتحدث " مارك بليث " بصراحة أكثر فيقول: أن البنوك تتصرف كالمرابي الذي يستفيد من تعثر مدينيه، ويستعين بالحكومات لزيادة أرباحه، من دون أن يتحمل مسؤولية إقراض مدين متعثر أصلاً.

الحرب النظيفة 

إن عرض الآثار المترتبة على تنفيذ شروط الاقتراض من صندوق النقد الدولي في نموذجي البرازيل واليونان بالإضافة إلى التركيز على تجارب مصر مع الاقتراض قديماً وحديثاً، يوضح أن الرأسمالية المتوحشة في الدول الغنية تشن حرب غير معلنة على الدول الفقيرة " النامية أو النائمة عما يحاك لها " للسيطرة على مواردها الاقتصادية، وذلك بإغراقها في الديون. 

إن الإصلاحات الاقتصادية الكلية وبرامج التكييف الهيكلي التي ينص عليها صندوق النقد الدولي كشروط للحصول على قروضه؛ تبقي الدول المدينة غير قادرة على سداد قروضها على الدوام. وهو ما يبقيها تحت السيطرة التامة لصندوق النقد، الذي يصبح في إمكانه أن يملي السياسة النقدية الاقتصادية، والتجارية للدولة، ويملي كيف تخصص الحكومة ميزانيتها، وتحدد أجور العاملين بالحكومة والقطاع العام، وتضع قوانين الاستثمار .... إلخ. ولأن اتفاقات قروض صندوق النقد عادة تمتد لفترات تتجاوز فترات حكم الحكومة التي وافقت على الشروط، فإنه يصبح من غير ذات جدوى اجراء انتخابات ديمقراطية تأتي بحكومة أخرى، لأنها ستكون في النهاية مكبلة بنفس الاتفاقات .

فبمجرد تنفيذ الحكومة لطلب صندوق النقد بتعويم الجنيه، فسيصبح من المستحيل سداد قرض الـ 12  مليار دولار؛ لأن سعر صرف الجنيه سيقوم بتحديده الدائنون ممثلين في صندوق النقد، بمعنى إن كان دخل 500 جنيه بالأمس يمكن من دفع دين مستحق مقداره 100 دولار اليوم، فإنه يتوجب اليوم زيادة الدخل إلى 600 جنيه لسداد نفس الدين غداً، وينبغي أن يكون الدخل غداً 800 جنيه لسداد نفس الدين بعد غد وهكذا .... ، وفي النهاية لن يكون هناك قدرة على تحقيق الدخل الذي يكفي لسداد الدين بعد سنوات لأن الدائن هو من سيقرر قيمة العملة.

ويشرح الاقتصادي الأمريكي " مايكل هادسون " صاحب كتاب " قتل المضيف " كيف أن الطفيليات المالية وعبودية الديون دمرت الاقتصاد العالمي، فيقول: أصبح علي اليونان اتخاذ إجراءات مالية عديدة، فعليها أولاً إلغاء نظام المعاشات، وفرض سياسة تقشف مشددة، وخصخصة الحكومة، وتقليص اقتصادها بنحو1% ثم 2% ثم 3% سنوياً، وذلك يجعل الفائدة التي فرضت علي الدين وهي 1.5% وبالرغم من تضاءل نسبتها إلا أنها سوف تبتلع أي نمو في الدخل يتحقق في تلك الفترة، وخلال الـ 25 عاماً المقبلة سيصبح علي اليونان تسديد كل يورو تتحصل عليه من النمو الي بنوك ألمانيا التي أقرضتها.

ويستكمل هادسون فيقول: وإن لم تتمكن اليونان من أن تحقق أي نمو؟ فإن عليها في تلك الحالة أن تبدأ في بيع أصولها، موانيها وأرضها ومرافقها العامة وسكك الحديد ومطاراتها وأي شئ يمكن أن تبيعه لدائنيها. ويكمل هادسون فيقول: وبعد كل ذلك لن يبقي أمام صندوق النقد إلا أن يقول لليونانيين بعد أن يبيعوا كل ما لديهم وبلادهم، لم يصبح أمام الشعب إلا أن يغادر البلاد بعد أن أصبحت ملكا لصندوق النقد.

هذه الحرب الجديدة، التي يصفها هادسون بأنها حرب بلا أسلحة فلا عليهم قتل أي شخص، هي الحرب المالية التي تدفع بالشعب الي الهجرة العمال والشباب والعقول. وهي حرب نظيفة بلا أسلحة أو قتل أي شخص أو انتهاك لحقوق الإنسان، وهي حرب مستدامة ليس فيها انسحاب الي الوراء أو المطالبة باسترداد الحقوق، فقد حدث كل شيء باتفاقات قانونية ملزمة وبيع وشراء .

الواقع المصري والحلول 

من المؤسف أن معظم البرامج الإعلامية لا شاغل لها إلا مناقشة السياسة النقدية المتعلقة بتخفيض سعر الجنيه أو تعويمه للحصول على قرض صندوق النقد الدولي، الذي يظهروه للمشاهدين على أنه المنقذ الوحيد للاقتصاد المصري من كارثة محدقه، مع العلم بأن القاصي والداني يعرف أن القروض مجرد حلول مؤقته أو مسكنات تؤدي إلى ترحيل الأزمة لوقت لاحق، وفي نفس الوقت تزيد من حدتها نتيجة الأعباء المترتبة على تلك الديون، وأصدق مثال على ذلك اليونان التي حظيت بثلاث خطط للانقاذ حصلت بموجبها على أكثر من 400 مليار دولار ولم يتحسن اقتصادها بل ازداد تعثراً.

لذا يجب استغلال الوقت في مناقشة الحلول البديلة للاقتراض وأهمها الاعتماد على الذات، والعمل الجاد، وزيادة الإنتاج، وتهيئة مناخ الاستثمار من الناحية السياسية والأمنية والقانونية والاقتصادية والضريبية والقضائية لجذب استثمارات خارجية مباشرة تمثل إضافة للاقتصاد العيني لتحقيق زيادة في معدل النمو تمكن الدولة من سداد ديونها وزيادة التراكم الرأسمالي.