تجارة التجزئة هي قليلٌ ظاهر لكثيرٍ مستتر!

02/06/2016 2
د. إحسان بوحليقة

منذ سنوات طويلة والحديث يتوالى عن تجارة التجزئة وما يمكن أن تجلبه من فرص لتوظيف السعوديين والسعوديات، حتى أصبح الحديث مكرورا، والسبب أننا نتحدث عنه ولا نفعل الكثير لإصلاح هذا القطاع بما يعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني، فيكون بوسعنا التوظيف فيه على نطاق واسع. حتى الآن، كل ما نفعله هو الاعراب عن امتعاضنا من التستر والمتسترين!

والسيطرة على تجارة التجزئة هنا تعني ليس فقط «سعودتها» أو «توطينها»، بل مراقبتها بصرامة أولا وقبل أي شيء.

فكل يوم نسمع عن قصص فظيعة تدور في الدهاليز الخلفية لهذه الأسواق تهدف للايقاع بالمستهلك وإيهامه والتغرير به وغبنه، لتحقيق أعظم ربح باستغفاله وكأن جيبه «سبيل»!

لعل فيما تناولته بعض وسائل التواصل والبرامج التلفزيونية عما يُباع لنا من أسماك فاسدة ولحوم كلاب عبرة و«شاورما» نتنة ومستحضرات «تجميل» مغشوشة عظة ودرس، لكن لم يحدث أي تغيير ملموس رغم مرور سنوات طوال!

قبل نحو أربع سنوات عرضت هنا «نشاطات». «نشاطات» هي مبادرة تقوم على ضبط كل حلقات القيمة الواصلة بين دكان بيع التجزئة والمُوَرّد الرئيس أو المُصَنع؛ فكل حلقة من تلك الحلقات تولد قيمة وفرصا للربح والتكسب الذي قد يكون مشروعا، أو قد يكون قائما على الغش ومخالفة النظام.

من يتردد على أسواق الخضار المركزية سيشعر بأن ثمة يدا خفية تسيطر وتربط بين أصحاب البسطات «أو بعضهم»، وأن هناك ترتيبا للأسعار وتمريرا للبضائع المتقادمة، ومن يدري ما يحدث في أسواق اللحوم بأنواعها عندما يدعي «القصاب» أن هذا اللحم محلي وانه طازج؟ هذا أمر بحاجة لثلة من الأطباء المتخصصين للتأكد منه، ثم انك لا ترى أثرا لا لختم ولا لتاريخ واضح، وكأن هذه أمور من مخلفات الماضي.

ومن المُسَلم به أن مراقبة الأسواق مهمة أساسية ارتكازية، فإما أن تقوم بها البلديات والأمانات كما ينبغي وفق أسس ومعايير عالمية، أو أن نقبل بالغش، وهو أمر لا يمكن أن يستساغ القبول به!

أعود لأقول ان حماية المستهلك تتحقق في أفضل صورها عندما تكون وقائية مُبَادرة؛ أي لا تسمح للغش أن يقع ابتداء، بحيث يجد من يريد أن يعرض سمكا فاسدا أو لحم كلاب -أجلكم الله- في مطعم او محل.. يجد أن الأمر مكلف من حيث الغرامات والعقوبات فلا يقدم عليه.

والأمر لا ينتهي عند مراقبة جودة البضائع، بل كذلك مراقبة أسعارها بآلية لا تتطلب إعادة اختراع العجلة بل بانتداب بعض مسئولي البلديات للأسواق المجاورة حيث تعلن عن أسعار الخضار واللحوم والأسماك عبر الراديو وفي الصحف السيارة، وعبر تطبيقات ذكية.

وكذلك يتطلب الأمر مراقبة لـ«المؤامرات» التي تحيكها مجموعات من الباعة، من ترتيب للأسعار لرفعها بصورة غير مبررة، وتمرير كل ذلك للمستهلك المكشوف الصدر والظهر!

كل هذه الأمور تتطلب مراقبة وجهدا لا يفتر لجمع المعلومات بصورة دقيقة ومستمرة عن الأسواق، وهو جهد «استخباراتي» ضخم وضروري، فأي رفع غير مبرر للأسعار ليستفيد منه الجشعون من التجار بدون مبرر، سيعني تضخما لمؤشر الأسعار، ومن ثم الغلاء، واستشراء الغلاء يؤثر سلبا على الاستقرار الاقتصادي إجمالا.

لكن كيف؟ هناك من الموظفين المسئولين من لا يُقَدّر الدافع الهائل لدى بعض الباعة لتحقيق أرباح متعاظمة عبر خفض تكاليفهم ورفع سعر بضائعهم في آنٍ معا؛ وذلك بالسعي لخفض التكلفة عبر شراء بضائع مَعِيبَة أو حتى فاسدة بأبخس تكلفة، ومن جانب آخر يتلاعب بالعرض لرفع سعر البيع، والممارسة السائدة في أسواق التجزئة لدينا تتجسد في خفض للتكلفة ورفع للسعر، وهي ممارسة توجع جيب المستهلك وتعيق المنافسة العادلة وتحدّ من توطين العمالة ورأس المال وتعزز التستر، وفي المحصلة تنهك الاقتصاد الوطني، عبر تصدير أمواله واستغلال موارده وفرصه استغلالا يقوم على الايهام والتدليس.

ينهك التستر الاقتصاد المحلي، ويمتصه امتصاصا يصيبه بأشبه ما يكون بـ«الأنيميا»، وكأننا في حالة ضخ للأموال من جهة، ليأتي «المنتفعون» ويشفطونها من جهة أخرى، ويخرجونها خارج نطاق الاقتصاد الوطني! إذا القضية ليست مجرد معالجة عبر مبادرات تخص «تجارة التجزئة»، والحديث عن مليون فرصة عمل.

السعي لاستعادة المليون فرصة عمل في نشاط تجارة التجزئة أمر يستحق كل دعم ومساندة وعمل جاد، لكن يبدو أن ذلك لن يتحقق إلا إذا أخذنا سلسلة القيمة في كل نشاط اقتصادي على حدة وعالجناها معالجة متعمقة، بذلك نجعل الأنشطة تساهم في توليد قيمة مضافة للاقتصاد المحلي.

إذا أمر تجارة التجزئة مرتبط بأنشطة أخرى لابد من تتبعها، لضبط حلقات القيمة وجعلها تعمل لمصلحة اقتصادنا الوطني، ولكل من يريد أن يساهم فيه وليس لمن يريد غبن المستهلك والتربح من غشه بمنتجات وخدمات رديئة وممارسات غير نظامية.

نقلا عن اليوم