أيها البنوك الخليجية: الأمان في الهندسة المالية

14/03/2016 3
د. عبد العزيز بن سعد الدغيثر

لا تزال البنوك الخليجية بالذات، والمؤسسات المالية بشكل عام تتلكأ في تطوير المنتجات عبر الهندسة المالية، مع علمهم اليقيني بصعوبة الفترة القادمة، وفي كل لقاء مع القادة المصرفيين أتحدث فيها عن أهمية الابتكار والابتعاد عن المحاكاة، وأضرب الأمثلة على ذلك، ولكن لا حياة لمن تنادي.

ولذا فسنتمر في عرض هذا الموضوع لعله يجد آذانا صاغية، وكما قيل:

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *****ومدمن القرع للأبواب أن يلجا 

وننبه في البداية إلى أن مصطلح الهندسة المالية (Financial Engineering) يستخدم في مناسبات متعددة لمعان متباينة.

وقد صار لصيقاً بعقود المشتقات المالية بدرجة كبيرة ، لدرجة أن كثيرا من الاقتصاديين يعتبرون أن أدوات الهندسة المالية هي في المشتقات المالية بالدرجة الأولى (قندوز ص 65)، ويقصد بالمشتقات ” العقود التي تهدف إلى تبادل المخاطر المالية ” وتعتبر أهم أدوات المجازفة في الأسواق المالية.

فهي ”أدوات مالية تتوقف قيمتها على قيمة أصل أخر، أو بعبارة أدق أدوات يتوقف العائد المتولد عنها على اتجاه سعر أصل أخر، ومن أول أنواع المشتقات صكوك الأوراق المالية التي يتم إصدارها ويعطى حائزها الحق في شراء أسهم الشركة بسعر معين في تاريخ لاحق، والسندات القابلة للتحويل إلى أسهم، وأشهر صورها الحديثة العقود الآجلة، والعقود المستقبلية وعقود الاختيار وعقود المبادلة.

وبظهور المشتقات لم يعد المضاربون في حاجة إلى التعامل في الأصول التقليدية، حيث توفر المشتقات في أسواق العقود المختلفة وسيلة بديلة للمضاربة بما يغني عن شراء الأسهم والسندات، حيث أصبح بوسع المستثمر شراء عقد اختيار أو عقد مستقبلي.

 والأصول التي تكون محل العقد تتنوع ما بين الأسهم والسندات والسلع والعملات الأجنبية، وتسمح المشتقات للمستثمر بتحقيق مكاسب أو خسائر اعتمادا على أداء الأصل محل العقد. وأشهر المشتقات:

1-عقود الخيارات.

2-عقود المستقبليات.

3-عقود المبادلات. وهي أنواع أشهرها:

1.مبادلات أسعار الفائدة.

2.مبادلات العملات.

وكثيرا ما يؤدي الاستخدام السيئ للهندسة المالية إلى نتائج كارثية، وأشهر مثال على ذلك شركة إنرون الأميركية، والتي كانت تعد سابع أكبر شركة في الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت على جائزة الشركة الأكثر ابتكارا ست مرات، وأدى استخدامها للهندسة المالية بطريقة خاطئة إلى إفلاسها.

ومن أسوء استخدام للهندسة المالية، عمليات الاستثمار في المشتقات المالية وعدم وضع حدود للمضاربات في أسواق العقود الآجلة للشراء أو البيع، ومن ذلك الاستثمار في السندات الوهمية ، وقد ذلك إلى إفلاس بنك الاعتماد والتجارة وبنك هيراشتار الألماني.

وهذا يبين أن الواقع ليس ورديا كما يقال، إذ يصف الأستاذ دركر - وهو أحد كبار الاقتصاديين - الواقعَ بقوله:" على مدى الثلاثين سنة الماضية لم تقدم المؤسسات المالية البارزة أي ابتكار ذا بال"، وينتقد واقع الاتجاه للمشتقات المالية بأنها " لن تكون أكثر علمية من أدوات القمار في لاس فيقاس ومونت كارلو" (سامي السويلم ص 8).

ومع ذلك فإننا معشر المصرفيين لدينا القوة إن وجدت الإرادة لتطوير المنتجات المالية إن كفينا شر أعداء التغيير ومحاربي التطوير ممن يخشون الإقدام ويؤثرون الإحجام.  

وتنشأ الحاجة للهندسة المالية إما استجابة لفرص استثمارية وفقا لتطلعات المستثمرين والمؤسسات معا ، و/أو للتعامل مع قيود المنافسة الدولية، و/أو درء للمخاطر واللايقين المحيط بالأنشطة الاستثمارية ، وهي في ذلك تعتبر من أدوات التحوط المالي Financial Hedging.

وتتحدد مقاصد الهندسة المالية وفقا للحالة التي تواجه المؤسسة المعينة .

وتدفع الهندسة المالية” المؤسسات المالية (كالبنوك ، شركات التأمين ، وصناديق الاستثمار، وشركات إدارة مخاطر الائتمان، وشركات إدارة محافظ الأوراق المالية وغيرها) إلى رسم سياسات مالية قوية، وابتكار منتجات وأدوات مالية جديدة، واستراتيجيات مالية مرنة تتفاعل وتستفيد من المتغيرات المستمرة في أسواق المال العالمية والإقليمية والمحلية من حيث أسعار الفائدة على السندات، أسعار الصرف، ربحية الأسهم، حركة اتجاهات الأسعار ومعدل الدوران في سوقي الأسهم والسندات.

ويقتضي ذلك أن تقوم المنشأة المالية بإنشاء أقسام للبحوث والتطوير في مجال المنتجات والأدوات المالية، وهذا ما نطالب به مؤسساتنا المالية في الخليج لتبنيه، ولكن لا زالت المؤسسات المالية تؤثر الدعة والتقليد للمنتجات الغربية، ولن نيأس من الاستمرار، لا سيما أن الابتكار من الأسس الدينية التي دعى لها الإسلام في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) حيث قال ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا يتقص من أوزارهم شيئا ).

ويستدل من هذه الحديث الدعوة للابتكار وإيجاد الحلول للمعضلات المختلفة المالية وغير المالية طالما كانت في مصالح العباد.

أيضا الدعوة للاجتهاد وضرورة مواصلته تعتبر من الموجهات الإسلامية القيمة التي تدعو إلى التجديد باستمرار ضمانا لحسن الأداء، وبالتالي المنافسة بإيجابية في سوق الخدمات المالية وأيضا في غيره من المسائل الحياتية للمجتمع المسلم.

وتؤكد الدراسات السابقة أن الهندسة المالية يجب أن تصبح يوما جزأ مهما ورئيسيا في قاعدة المعلومات لمن يشغلون وظائف الإدارة، أو يشتغلون بالاستثمار.

ومن أهم ما يدعو للهندسة المالية الحاجة لتجاوز القيود، ويشمل ذلك: 

1-القيود القانونية، مثل منع الجهة المنظمة من عقود معينة.

2-القيود التقنية، مثل صعوبة إجراء منتجات معينة.

3-القيود الاجتماعية، مثل تفضيل بعض المنتجات على أخرى.

4-القيود الدينية، مثل تحريم الربا.

 وتستخدم الهندسة المالية استخداما غير سليم لتجاوز القيود القانونية ويعد ذلك من التحايل على القوانين، ومثال ذلك الاحتياطي الإلزامي، فقد ابتكر المهندسون الماليون طريقة إعادة الشراء لسندات الحكومة للتخلص من مشكلة الاحتياطي الإلزامي، بأن يقوم المصرف ببيع السندات الحكومية التي بحوزته بثمن محدد على أن يعيد شراءها من نفس البائع بثمن أعلى، وحقيقته: قرض بفائدة ربوية، مع رهن السندات، لكن المصرف لا يحتاج إلى حجز احتياطي نظامي مقابل السيولة التي يحصل عليها، وهذا المثال واقعي من المصرفية التقليدية الربوية.

والنتيجة: نقص فعالية السياسة النقدية وضعف أثرها الاقتصادي (سامي السويلم ص 11). وهذا يؤكد أن الابتكار المالي سلاح ذو حدين، فقد يساهم في عدم الاستقرار الاقتصادي.

كما تستخدم كحل لقيود قانونية بحلول قانونية، فعلى سبيل المثال فإن المصارف ممنوعة في الاتجار في العقار والبضائع، والمصرف التي تتعامل بالبيع وتمتنع من القروض الربوية لا بد لها من ممارسة البيع لغرض التمويل، فلجأت تلك البنوك إلى إنشاء شركات عقارية مملوكة بالكامل لها، ويكون الشراء والتعامل العقاري عن طريقها.

ويمكن تلخيص أسباب اللجوء للهندسة المالية بما يأتي:

1-ظهور الاحتياج، وكما قيل :"الحاجة أم الابتكار"، وهذا بدهي، فإن تطوير منتج معين أو استحداثه لا يكون نابعا من فراغ، بل لوجود حاجة من طلب عميل، أو توقع ذلك منه، أو احتياج مستثمر أو مؤسسة مالية.

2-التطور في تقنية المعلومات، مما يسهل عمل الابتكارات المالية ويقلل من كلفتها. كما أن اتساع شبكة الإنترنت، وتطورها وسع من دائرة السوق المالي، وتداخلت التجارة بين بلدان العالم بشكل كبير.

3-ظهور مفهومي الكفاءة والفعالية، ويقصد بالفعالية المقدرة على تلبية احتياجات العملاء، ويقصد بالكفاءة أن يكون تلبية تلك الاحتياجات بتكلفة قليلة وبسرعة ودقة عالية.

4-زيادة عدد الأسواق الجديدة المنظمة، وخصوصا مع سهولة الدخول عبر الأنظمة الحاسوبية.

5-الحاجة إلى إدارة المخاطر، بعد تزايد تلك المخاطر بسبب التقلبات في أسعار الصرف، ومؤشرات الفائدة، وأسعار الأوراق المالية.

6-الاستفادة من المزايا الضريبية، فالمؤسسة المالية ترغب في إخضاع أرباحها لأقل قدر ممكن من الضرائب، فضريبة بعض الصيغ التمويلية أقل من بعضها الآخر، فيتم التركيز على الصيغ ذات الضرائب الأقل، وبعض البنوك في السعودية تبحث عن الفرص الاستثمارية التي تقلل بها الوعاء الزكوي، وهو مقصد غير نبيل، ويجب على مصلحة الزكاة أن تتنبه للتحيل على الزكاة.

7-انخفاض تكاليف المنتجات الجديدة بسبب التطور في استخدام التقنية، فتكلفة الإصدار وتكاليف الوكالة والسمسرة أقل من وقت سابق، وهذا محفز لتطوير ابتكارات جديدة في السوق المالية.

8-التذبذب الحاد في أسعار الصرف، والمؤشرات يربك المؤسسات المالية، وهي بحاجة دائمة إلى ابتكار أدوات مالية للتحوط.

9-وجود اهتمام أكاديمي بمجال الهندسة المالية في الجامعات المتقدمة، يجعل هذا المجال في تطور سريع.

10-التوسع التجاري بين دول العالم المختلفة، مما يجعل الحاجة ملحة يف ابتكار أدوات جديدة للتعامل مع الأسواق الجديدة.

وفي ختام هذا المقال، آمل من زملائي العاملين في المؤسسات المالية، المهتمين بالابتكار في المنتجات المالية التواصل عبر موقعي الشخصي:  www.drcounsel.com لبحث أسس نجاح الهندسة المالية في كتابة قادمة.